الممارسة الديمقراطية والاقتصاديات الأوروبية

جاءت نتائج استفتاء البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي صادمة وغير متوقعة، فالتقديرات كانت ترجح وفقا لقراءات وتحليلات متخصصة بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي نظرا للانعكاسات والآثار والتبعات الكبيرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ستنتج عن هذا الانفصال في داخل بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي وخارجها ،على أسواق العملات والمال والعقار والاستثمار والتبادل التجاري ... وقد شبه البعض الانفصال بالزلزال الذي سيقوض أركان الاقتصاد البريطاني بالأخص والعالم بشكل عام، وفي حقيقة الأمر كنت واحدا من هؤلاء الذين رجحوا كفة بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي وذلك من حيث إن الشعوب والدول والحكومات تتجه في عالم اليوم إلى تشكيل وإقامة اتحادات وكيانات ومراكز قوى سياسية واقتصادية لا الانفصال عنها، وكان نجاح قيام الاتحاد الأوروبي واستمراره مثالا رائدا نتكئ عليه لحث الدول العربية على إقامة مشروع اقتصادي على غراره والتأكيد على أهمية ودور هذه الاتحادات في النهوض والتقدم والنمو الاقتصادي، وكنا نعتقد بأن من يسعى ويعمل ويطالب بالانفصال هم قلة من المنتمين إلى اليمين المتطرف في أوروبا. وبعد أن جاءت نتائج التصويت لصالح الانفصال فإن القرار من وجهة نظري سيأتي لصالح الاتحاد الأوروبي، وذلك من حيث أن بريطانيا ما تزال تعيش زهو الأمجاد التاريخية وأحلام الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ولدى الكثير من البريطانيين ثقة الاعتداد بالنفس والشغف بالسيادة والتميز والرغبة في الاستفراد بالقرار والشعور بهاجس الذوبان في الاتحاد الأوروبي والخوف من تبعات نظام الهجرة الموحد وتساهل دول الاتحاد مع اللاجئين والارهاب والانفاق على الاتحاد الأوروبي فكانت عضوا عائقا أكثر من كونها محفزا ومشجعا .النتائج الحقيقية لهذا الانفصال سوف تظهر تدريجيا خلال الأسابيع والأشهر القادمة ،هل ستتمكن بريطانيا من استعادة أمجادها والقدرة على تطوير وتنمية اقتصادها بعد انفصالها عن الاتحاد؟ هل سيواصل الاتحاد الأوروبي مساره ونجاحه بعيدا عن بريطانيا التي كانت عائقا له كما يرى العديد من الخبراء؟ هل ستضغط الشعوب في دول أوروبية لاستفتاء الانفصال على غرار التجربة البريطانية؟ وهل ستتغلب النزعات الانفصالية في انفصال اسكتلندا وايرلندا عن بريطانيا؟، لقد أجرى معهد المدراء، وهو اتحاد بريطاني لرؤساء الشركات، استطلاعا للرأي، شمل أكثر من ألف شخص من المنتسبين إليه، أظهرت نتائج الاستطلاع أن (شركة بريطانية من أصل خمس شركات تعتزم نقل قسم من نشاطها، كما يرى 64% من أرباب العمل أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سينعكس سلبا على نشاطاتهم). لقد شارك أكثر من 33 مليون بريطاني في عملية استفتاء ديمقراطية قال فيها الشعب البريطاني كلمته وتحمل مسؤوليته التاريخية ونتائج اختياره، وحصل مؤيدو الانفصال عن الكتلة الأوروبية 51.9 في المئة مقابل 48.1 في المئة لمعسكر البقاء، وذلك بعد فرز جميع مراكز الاقتراع، وأعقب عملية الاقتراع إعلان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أنه سيستقيل خلال مؤتمر حزب المحافظين في أكتوبر المقبل، مؤكدا احترامه لإرادة البريطانيين. هذه الديمقراطية التي أحدثت (موجة من الصدمات ضربت دول أوروبا التي لم تتمكن من استيعاب تصويت الناخبين البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي)، قابلها العالم بالاحترام والتقدير ورأى كثيرون في نتائجها الشجاعة والجرأة من شعب قادر على أن يحدد خياراته وأن يرسم مسارات مستقبله، فهل ستقوض الممارسة الديمقراطية الاقتصاديات الأوروبية؟ الإجابة على السؤال تتطلب الكثير من الوقت، والزمن كفيل بتبيان النتائج الحقيقية لهذا الانفصال.  العديد من المتابعين وأبناء المجتمع الخليجي واصلوا تساؤلاتهم بعد نتائج الاستفتاء عن التبعات المترتبة على اقتصاديات الدول الخليجية على أسعار النفط وأسواق المال واستثمارات الصناديق السيادية وحجم التبادل التجاري مع كل من الاتحاد الاوروبي وبريطانيا المنفصلة عنه.. والاجابة على هذه الأسئلة تحتاج إلى بعض الوقت قبل أن تنجلي صورة الوضع، فأسواق المال الخليجية بحمد الله كانت مغلقة لتوافق نتائج الاستفتاء مع الاجازة الأسبوعية الخليجية وإن شهدت تراجعات في افتتاحياتها مطلع الأسبوع الماضي، إلا أنها سرعان ما تراوحت بين الانتعاش والاستقرار فيما تبقى من أيام الأسبوع، وأسعار النفط وإن تراجعت بنسبة 6% في الأسواق العالمية يوم اعلان النتائج إلا أنها استعادت كذلك نشاطها وعاودت ارتفاعها لتستقر على ما كانت عليه قبيل الاستفتاء، وفيما يتعلق بالاستثمارات والارتباطات الخليجية الحكومية بالاتحاد الأوروبي وبريطانيا فلا شك بأنها ستتأثر بما تشهده أسواق المال والعملات والعقار من تراجعات وهبوط حاد في الأسعار، فقد كشف الرئيس السابق لاتحاد المصارف العربية عدنان أحمد يوسف عن أن خسائر الصناديق الخليجية السيادية بما فيها خسائر المصارف والقطاع الخاص تتراوح ما بين (600-700 مليار دولار أمريكي خلال الـ 48 ساعة التي أعقبت الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي). وهي أرقام لا يمكن التسليم بها دون تأكيدات رسمية وقراءات أكثر دقة وتفصيلا.  Saud2002h@hotmail.com