صندوق النقد والسوق السوداء

وجود السوق السوداء في أي دولة ينم عن خلل اقتصادي ونقدي فيها، تتجلى مظاهره باستدعاء صندوق النقد الدولي للتدخل بهدف تهدئة الدائنين، وتقديم رعايته لتخفيض العملة المحلية أو تعويمها، حيث تلعب السوق السوداء للنقد الأجنبي، دورا هاما بالكشف عن حقيقة هذا الخلل من خلال إعادة تقييم سعر صرف العملة المحلية تجاه الدولار الأمريكي. ويبدو للمتابع وكأن الصندوق والسوق في صراع مستمر، فهما ومنذ بداية وجودهما المتقاربة يتحكمان وإن بنسب متفاوتة بمصير اقتصاد الدول والشعوب، فالصندوق بدأ ممارسة أعماله في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1947 بعد أن تأسس عام 1944، وهي نفس الفترة تقريبا التي بدأ فيها عمل السوق السوداء، وكان سبب وجود الصندوق تجنب تكرار كارثة السياسات الاقتصادية الفاشلة للحكومات، والتي أسهمت في حدوث الكساد في الثلاثينيات من القرن العشرين، ولتنظيم العلاقات الاقتصادية والنقدية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، فيما كان سبب وجود السوق السوداء لاستثمار السياسات الاقتصادية الفاشلة التي أصرت عليها الحكومات كرقابتها على الصرف الأجنبي، وتقييمها للعملة المحلية بسعر يفوق سعرها الفعلي، وما سببه ذلك من زيادة الطلب على الدولار بأكثر من العرض منه، فكانت السوق السوداء هي الحل. وحتى الهدف الرئيسي لكل منهما أصبح محل صراع، فالصندوق يهدف إلى التخلص من القيود على الصرف الأجنبي كي تستقر أسعار الصرف، فيما تهدف السوق السوداء لنقل التوازن الفعلي لسوق الصرف إلى مستوى فعلي من خلال عكس الصورة الحقيقية للاقتصاد بعيدا عن خداع الشعوب وتطييب خاطرها بشعارات التضحية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. أكثر من ذلك يلزم الصندوق كل دولة عضو فيه بسعر الصرف المحدد لعملتها على أساس الدولار الأمريكي مع السماح بتقلبات لهذا السعر في حدود +/- 1% في معظم الحالات، وهو الأمر الذي يتطلب أحيانا أن تأخذ الدول الإذن قبل خفض أو رفع قيمة العملة، فيما السوق السوداء تعكس السعر الفعلي للعملة المحلية صعودا أو هبوطا بدون رتوش، وبما ينسجم مع مستوى قدرة الحكومات على التدخل لحماية تلك العملات اعتمادا على حجم الاحتياطي من العملات الأجنبية لديها. وكما يختص صندوق النقد بتقديم القروض إلى الدول الأعضاء لمعالجة العجز المؤقت في موازين مدفوعاتها، تختص السوق السوداء بتمويل عمليات الاستيراد، أو شراء أصول مالية مقومة بالعملة الأجنبية، أو الاستثمار في محفظة الأوراق المالية، خاصة عند ثبات معدلات الفائدة على العملة المحلية، أو لتهريب الأموال، وحتى لغسل الأموال، أو تمويل التجارة غير الشرعية. ولكل من الطرفين هيئات عليا تحكم عملها، فالصندوق لديه مجلس المحافظين، واللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية، ولجنة التنمية المشتركة مع البنك الدولي، والمجلس التنفيذي، والسوق السوداء لديها المستفيدون من تحويلات العملات الأجنبية كحوالات المغتربين التي لا يمر كثير منها من خلال الجهاز المصرفي، والسائحين، وربما بعض المسؤولين الرسميين، وأحيانا بعض العاملين في البنوك ومكاتب الصرافة وتجار العملة غير الشرعيين. أيضا فكما ينهج الصندوق إستراتيجية التجزئة الجغرافية segmentation Geographic في إدارته لمناطق نشاطه في العالم، تنهج السوق السوداء إستراتيجية التجزئة السوقيةMarket segmentation في نشاطها في المناطق الحضرية، ومناطق الجذب السياحي، والشوارع الخلفية في عواصم ومدن الدول التي تعمل بها، وذلك بحسب شرائح المحتاجين لخدماتها. وكما للصندوق مصادر إيرادات وهي أساسا من اشتراكات البلدان الأعضاء، وعوائد القروض المقدمة، فإن للسوق مصادر للربحية فيه تتمثل بإنفاق السائحين، وتحويلات المغتربين، وفواتير التجارة الخارجية المزورة، أو الخاضعة للتلاعب في بياناتها كزيادة كلفة الواردات، أو تخفيض القيمة الحقيقية للصادرات، وغيرها. لعل شعبية السوق السوداء تكمن في تعاملها المباشر مع الناس، وتلبية احتياجاتهم بسرعة وفي جميع الأوقات، لذلك فهي تؤثر مباشرة على حياتهم، أما الصندوق فيتعامل مع الحكومات، ويطيل فترات المعاينة، ويضع الشروط قبل الموافقة على تقديم وصفته بما فيها القروض المقدمة، التي لا يحس بها الناس، ولا يلمسون أثرها في معظم الحالات.