تستطيع دول الخليج أن تشكل مجتمعة تكتلا اقتصاديا متينا قادرا على مواجهة التحديات ومعالجة المشكلات والانكماشات الاقتصادية المتجددة التي تزداد تشابكا وتعقيدا، وإنجاح سياسات التنويع بنقلها من التنظير والتوصيات إلى التنفيذ والتطبيق، وتهيئة وتحفيز وتطوير الأنشطة والقطاعات الواعدة المعول عليها في زيادة العائدات ورفع نسبة مساهماتها المالية في الناتج المحلي الإجمالي، والاستغناء التدريجي عن النفط الذي اعتمدت عليه خطط وموازنات دول الخليج ردحا من الزمن وساهم في إنشاء البنية التحتية وفي تحقيق التنمية والازدهار وإثراء شريحة على حساب الفئات الأخرى، وتواجه أسعاره باستمرار تحديات كبيرة في الأسواق العالمية لأسباب كثيرة تطرقنا إليها في مقالات سابقة، وينذر بعواقب وانعكاسات خطيرة على الاقتصاد الخليجي مستقبلا إذا خسرت الحكومات رهان التنويع وواصلت الاعتماد على النفط كمصدر أساسي ووحيد لتمويل بنود الإنفاق التي تواصل الارتفاع سنويا. لقد استنزفت دول الخليج على مدى نصف قرن الكثير من الفرص والجهود والإمكانات والأوقات والمبادرات والثروات والأفكار الثمينة في صراعات وخلافات وانشغالات واهية، ومولت بموارد ضخمة نزاعات وحروبا وتدخلات لا تعنيها ولا تضيف لها ولشعوبها أية عوائد ومنافع ومصالح، فعطلت مشاريع اقتصادية مهمة وأودت باتفاقيات واستثمارات ومشاريع ضخمة مشتركة، فأفسدت أمزجة الساسة وأهوائها طموحات وتطلعات وخطط الاقتصاديين، فخسرت اقتصاداتنا عوائد سنوات تبخرت في الإنفاق المهدر وموارد ضخمة كانت ستدفق من مبادرات ومشاريع واعدة ولكنها لم تر النور للأسف الشديد. درس الإخفاقات عميق والهزات والانكماشات التي مرت بها الاقتصادات الخليجية في السنوات الأخيرة تمثل فرصة للمراجعة والتقييم واستخلاص العبر والتصحيح وإعادة الحيوية والنشاط لمجلس التعاون الخليجي خاصة في جانبه الاقتصادي التعاوني التكاملي، ومشاريعه الاستثمارية المشتركة، فالاقتصاد المتين هو الدعامة الحقيقية الذي تستند عليه قوة الدول ونهضتها ونموها واستقرارها، وعلى نموه وصلابته وموارده المتعددة وأنشطته ونجاحه تبني الكيانات والتكتلات والدول علاقاتها ومصالحها ويتعاظم احترامها واعتبارها للاقتصادات القوية... لقد وفرت هبة النفط لدول الخليج على مدى عقود ثروات مالية هائلة ولكنها لم تتمكن للأسف الشديد من استثمارها في تحقيق التنويع والاستدامة وتطوير إمكاناتها وقطاعاتها ومواردها الأخرى التي تمتلكها، ولم توظف قيام مجلس التعاون الخليجي في تعظيم منافعه الاقتصادية وإنشاء تكتل اقتصادي خليجي متين، فدول الخليج تنعم بموقع إستراتيجي متفرد يشرف على بحار وخلجان ومضائق وطرق تجارة عالمية، ويجاور بلدانا وشعوبا ذات كثافة سكانية ضخمة وإرث تاريخي وثروات متنوعة. وتمتلك مجتمعة تنوعا سياحيا تمتزج في فضائه الواسع الأماكن والمدن والمزارات الدينية المقدسة، والطبيعة التي تتوزع بين مدن عصرية وقرى ريفية، جبال وسهول وشواطئ ممتدة، كثبان رملية وأودية ساحقة وصحارى شاسعة، وتحتشد بالمعالم والآثار التاريخية المهيبة، ولديها إمكانات وثروات سمكية وزراعية ومعادن وبنية تحتية جيدة وصناديق سيادية وقوة شبابية متعلمة.. ولو تم توظيف واستثمار كل تلك الإمكانات عبر مشاريع وأسواق وجهود مشتركة وفي تكتل اقتصادي قائم على التعاون والتنسيق والتكامل تنظمه اتفاقيات وتشريعات وقوانين وتفاهمات جادة ومشتركة، فسوف تنعم منطقة الخليج العربي بازدهار ونمو اقتصادي مستدام ونهضة علمية تأخذ طريقها ضمن الركب الحضاري العالمي وسوف تصبح قوة تحترمها وتعمل حسابها التكتلات الاقتصادية الأخرى ودول العالم المتقدم. ولا أدري ما الحكمة من تفويت هكذا فرص غالية وثمينة حتى اليوم؟.