سنة جديدة، وعام آخر يُطل علينا بأول أيامه الجميلة، رُزنامة جديدة وأحلام جديدة نطوِي بها جزءا من حياتنا مضى بأحداثه وانقضى بأحلامه لنواجه مرة أخرى 365 يوما جديدا في حياتنا العملية والاقتصادية قبل جردة حِساباتنا المالية القادمة، موعد جميل قد نقضيه مع القوائم المالية وسهرات صاخبة وطويلة نصحب خلالها نشرات الاخبار لنسمع ونرى ما تم نشره من أرقام وأخبار اقتصادية، عام انتهى من حياتنا، وكعادة الوقت فإنه حين يذهب لا يعود، بل يترك لدينا ذلك الإحساس الغريب به فنقول دائما وفي نفس التوقيت "كم كان من عام طويل؟ كم كان من عام مليء بالأحداث والتغيرات؟" 2022 لم يكن عاما عاديا ولن يكون كغيره من السنوات، فهو عام الأحداث المُتعاقبة المُتضاربة فمِن نهاية الجائحة -أو على الأقل كما كنا نظن- الى حرب روسية أوكرانية وانقطاع للإمدادات الغذائية في كثير من دول العالم، تضخم وارتفاع غير مسبوق في الأسعار، سبعة اجتماعات للفيدرالي الأمريكي كانت كفيلة برفع معدلات أسعار الفائدة بشكل عامودي من مستويات ال0.25 % الى مستويات الـ 4% في ديسمبر من نفس العام مع توقعات بوصولها الى 5% خلال العام القادم "2023"، نظرة مستقبلية متشائمة لدى العديد من المراقبين ودور الخبرة حول شهور قادمة يعتقد الكثير منهم أنها ستكون أياما مملوءة بالركود والتراجع في النواتج المحلية لمعظم دول العالم والتي قد تتحول بين ليلة وضُحاها من دول جاذبة للاستثمار مصبوغة بالنمو الى دول راكدة تواجه التضخم والبطالة، قارة أوروبية تخاف البرد، وقارة آسيوية تضع حدا للكورونا، وقارة أمريكية تطبع الأموال وترفع أسعار الفائدة بحثا عن انخفاض في التضخم والغلاء، وهنا يأتي السؤال المهم، ما الذي حدث في العام 2022 لنواجه جميعا دون استثناء هذا التضخم والغلاء الغير مسبوق بالأسعار؟ وما هو تأثير أسعار الفائدة الحالية والمستقبلية على ما يحدث؟ أولا وقبل كل شيء فإنه من المهم جدا معرفة ان التغيرات الاقتصادية في العالم غالبا ما تكون مصحوبة ومسبوقة بأحداث وتغيرات أخرى غالبا ما تكون هي السبب الأول والاهم لما قد يحدث لاحقا، فأي تغيير اقتصادي وان كان طفيفا الا انه لا بد وان يكون نتيجة لحدث آخر، فاحتراق غابات البن ونقص المخزون مثلا هو ما يُسبِب ارتفاع أسعار القهوة، وغزارة انتاج القمح والحبوب ان حدث فهو ما قد يؤدي في النهاية الى الانخفاض في أسعار الخبز، كذلك فإن رفع الرواتب والأجور هو السبب الرئيسي للتضخم في كثير من الدول، نعم انها منظومة من الأحجار المُتراصة الجميلة التي تُسقِط بعضها البعض أو تسنُد بعضها البعض، ولذلك فإنه ومن الناحية الاقتصادية وبعد تشخيص المرض غالبا ما يتم اخذ إجراءات وقائية عديدة عبر تغيرات مُتعدِدة في محاولات لتغيير واقع اقتصادي حالي غير مقبول الى واقع اقتصادي قادم افضل، هي سُنة من سُنِن الحياة فكما يقول المثل العربي القديم "لا يكسر الحديد الا الحديد" وها نحن اليوم نقول "لا يُغيِّر الاقتصاد إلا الاقتصاد". وبالحديث عن اهم أسباب حالة التضخم التي يعيشها العالم حاليا فإنه يُمكن تلخيصها بانها قد بدأت مع الحديث عن انتهاء الإجراءات الاحترازية لجائحة "الكورونا" وبالتالي عودة الحياة الى طبيعتها وهو ما رفع الطلب بشكل مفاجئ الى مستويات مرتفعة لا يستطيع العرض تلبيتها ليكون أول أسباب التضخم وليُطلق بذلك شرارة ارتفاع الأسعار والتي كان يُراهن الكثير على أنها موجة مؤقتة من الارتفاع التي ستنتهي مع تراجع مستويات الطلب الى طبيعتها لولا تدخل الحرب الروسية الأوكرانية التي كان لها رأي آخر، فما أن بدأت تلك الحرب الا وانقلب العالم كله رأسا على عقب فها هو 40% من استهلاك القارة العجوز من النفط قد توقف عن الوصول اليها، وها هي محصولات الغذاء الروسية الأوكرانية التي كانت تُغذِّي العالم لم تعد تصل الى مخازن المستهلكين، وهو الامر الذي خفّض المعروض من تلك المواد والمنتجات بشكل كبير ليكتب بذلك ثاني أسباب التضخم الحالي قبل أن يكون هو نفسه أيضا أساس السبب الثالث لهذا التضخم عبر الارتفاع الكبير في تكلفة نقل وتوصيل المنتجات الى الأسواق بسبب ارتفاع أسعار النفط الناتجة عن توقف النفط الروسي من التدفُق في صهاريج كثير من الدول والمصانع، أسباب عديدة تضامنت لتكون من المرّات النادرة التي تجتمع كُلَها في نفس الوقت ليتّحِد عبرها نقص المعروض مع ارتفاع الطلب وزيادة تكاليف الإنتاج فيظهر لنا "التضخم" في أبشع صُورِه. حالة صعبة من ارتفاع غير مسبوق بالأسعار استدعت "النخوة الأمريكية" عبر رجُلِها الخارق "الدولار" -وهو الأقوى والأكثر انتشارا في العالم- ليبدأ عبر مجلس الفيدرالي حربا ضروسا شرسة لم يفوِّت الفيدرالي فيها أيا من اجتماعاته الدورِّية الا ورفع خلالها معدلات أسعار الفائدة في دعم مباشر للدولار وهو ما ساهم وبشكل واضح في تخفيض قيمة التضخم من مستويات ال9% تقريبا الى مستويات ال7%، فرفع معدلات الفائدة يعني ايداعات أكثر وتكلفة اقراض اعلى وهو ما يعني أموال أقل بالأسواق وبالتالي قوة شرائية أقل وطلب أقل وهو وبالرجوع الى اسبابنا الثلاثة المذكورة أعلاه ما يُلغي السبب الأول وبالتالي يساعد على انخفاض الأسعار. وأخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي فإن مُحاربة التضخم في حالتنا هذه هي من أصعب الحروب الاقتصادية والتي حتى وإن انتهت بالنصر الا انها ستترك بعدها العديد من الضحايا والآثار، ولذلك فإننا ومع نهاية التضخم قد نرى شركات تنتهي وأخرى تتوسع وقد نشهد أيضا دولا تُفلِس وترتهِن اقتصاديا ودولا أخرى تظهر على الملأ لتقول أنا الأقوى، تغيرات كثيرة وتبدُّلات كثيرة ستكون كما أراها بمستوى الحدث الكبير، وهنا أستذكر مقولة "مارك فيكتور هانسن" الذي يقول "حتى في أسوأ حالات الكساد الاقتصادي، تزدهر 25٪ من الشركات – في مجال عملك اكتشف ما يفعلونه وافعله".