الواسطة.. سلاح من لا سلاح لديه

مع ارتفاع عدد المتعلمين ومع وجود الكثير والكثير من أصحاب المؤهلات العلمية والعملية، أصبحت فرص العمل المناسبة حلما حقيقيا يراود كثير من الناس، بل وأصبح السؤال الأول والاهم الذي يطرحه أي من المتخرجين لأهله وأصدقائه هو: هل تعرف شخص أو مسؤول في المكان أو الشركة الفلانية؟ بل وباتت درجة الصداقة أو المحبة تُقاس بعدد المراجع التي يعطيها شخص لآخر لتساعده في انهاء عمل ما او حتى لقبوله في وظيفة مُعينة، وهو ما حوّل كثير من الناس من مجرد اشخاص الى مفاتيح ذكية تُفتح بها الأبواب المؤصدة لتأخذ شخصا ما من منطقة البحث عن وظيفة مناسبة الى منطقة العمل الفوري وتأمين سلم وظيفي يندرج تحت بند "فلان بيسلم عليك" او "انا من قِبل فلان"، لتصبح هذه الواسطة هي الشرط الأول والاهم في اولياتنا وحياتنا العملية، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هي الواسطة؟ وما هي اثارها السلبية على المجتمع والاقتصاد؟ وهل هي سيئة دائما؟. أولا وقبل أي شيء فإنه يمكن تعريف الواسطة على أنها طلب المساعدة من شخص ذي نفوذ وحظوة لدى من بيده القرار لتحقيق مصلحة معينة، لشخص لا يستطيع تحقيقها بمفرده، وبغض النظر عن مدى احقية هذا الشخص في هذه المصلحة المطلوب وصوله لها. اما بالحديث عن هذه العملية فإن الآراء تنقسم الى قسمين فالبعض يراها حميدة ويُدرجها تحت باب مساعدة الاخرين والبعض الاخر يراها سيئة ويُدرجها تحت بند الاستغلال الخاطئ للقرابة او السلطة، وهنا تجدر الإشارة الى ان الفيصل بين ما سبق هو في عدة نقاط يأتي على رأسها الغاية من هذه المساعدة بالإضافة الى جواب للسؤال الأهم وهو: هل ان الشخص المستفيد هو من يملك الاحقية فعلا في هذه المصلحة او العمل؟ وهل هناك مِن مُتضررين جراء هذه العملية؟ وهو ما يُفسر الجملة النبوية الشهيرة "لا ضرر ولا ضرار"، وهو ما يجعل أيضا الواسطة نفسها تطرح شروطا على ذاتها حتى تكون مقبولة من البعض وهي ألا تكون فقط لصاحب جاه أو مال أو قريب، بل أن تكون بطريقة يمكن ان يحظى بها الفقير والمحتاج، وألا يتبع الإنسان شفاعته ومعروفه بالمن والأذى وان تكون بنِيّة صادقة لصاحب أحقِّية وبهدف إعطاء كل ذي حق حقه دون ظلم او إيذاءٍ لاحد. هذا وقد أصبحت هذه الظاهرة وبسبب انتشارها الكبير في كثير من المجتمعات سبب رئيسي لكثير من السلبيات والمشاكل والتي من أهمها ما يلي: انتشار الفساد بين الموظفين وهو ما يظهر لاحقا عند قيام الموظف وبشكل غير قانوني بمساعدة أصحاب الواسطة في القيام بأعمال غير قانونية كترسية بعض المناقصات او الاعمال عليهم دون احقيتهم بذلك او حتى قيامه بتضخيم قيمة العقود وذلك بهدف تعظيم الأرباح الناتجة عن إتمام العمل والذي كان من الممكن إنجازه بأقل من المبلغ المصروف من قِبل شركات أو أشخاص آخرين. كذلك فإن الواسطة هي أحد اهم أسباب تراجع وتدني مستوى الإنتاجية والجودة في الاعمال وهو ما ينتج عن ايكال العمل لغير القادرين على تنفيذه واتمامه بشكل صحيح، ناهيك عن الخسائر المالية والتي غالبا ما تكون بسبب سوء التنفيذ او عدم مطابقة المواصفات لما هو مطلوب. وأخيرا والأكثر خطورة فهو ان الانتشار الكبير للواسطة يخلق حالة من الاكتئاب بل وحتى الهجرة الجماعية لأصحاب الهمم والمقدرات العلمية الحقيقية وهم من يبحثون عن بيئة تنافسية عادلة لإثبات ذاتهم وإبراز قدراتهم، وهو ما يُحول مؤسساتنا الى مستنقع لذوي الوسائط الكبيرة والامكانيات المُتواضعة او حتى غير القادرة على إتمام المطلوب منها من اعمال. وأخيرا وبرأيي الشخصي فإن فكرة الواسطة هي فكرة نفسية تنتاب النفس البشرية اما بهدف الاستفادة المادية او بهدف اثبات الذات امام الاخرين بحيث يلبس صاحب الواسطة عباءة القوة ليُبهِر بها اعين الناس، وهي وان كانت موجودة الا ان عملية مكافحتها تقوم على أساس التربية الصحيحة وتتم بشرط وجود قوانين وتشريعات واضحة وصريحة يتم مراقبتها عبر عمليات رقابة حقيقية وبنّاءة، وهنا أستذكر قصة الممثل الصامت الشهير "تشارلي شابلن" حين تم الإعلان عن احدى المسابقات حول من يستطيع تقليده بشكل كامل، وحينها ومن باب الفضول وبالرغم من ثقته بفوزه بالمركز الأول فقد قرر "تشارلي" التسجيل والمنافسة على تقليد نفسه ليرى ردة فعل لجنة التحكيم عند قيامه بالأداء، وهنا كانت المفاجأة الكبرى فقد حصل "تشارلي" على المركز الثاني وهو ما دفعه للبحث عن صاحب المركز الأول، وهو من قام بتقليده بشكل افضل من تقليده لنفسه، ليكتشف بعدها أن صاحب المركز الأول هو ابن اخت مُنظّم المسابقة المذكورة.