دول الرفاه.. تعاني

تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية تجتاح دول الرفاه الاجتماعي الغربية بوصولها إلى طريق تضيق مسارب الرفاهية فيه، مع تراجع قدراتها على توليد الدخل الكافي للإنفاق على احتياجات مواطنيها، ما يجعلها تحت رحمة الشعبوية كما عبرت عنها نتائج الاستفتاء على الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، ونتائج الانتخابات الأمريكية. وكما أظهرتها نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية المعبرة عن انقسام الشعب الفرنسي وهو ينتقل من صراع تقليدي ظل قائما بين اليمين واليسار على مدار العقود الستة الماضية، إلى صراع جديد بانزياح اليمين إلى الوسط مع هزيمة كل مرشحيه، وانزياح اليسار إلى اليمين المتطرف مع هزيمة كل مرشحيه أيضا. ما يشير إلى أن كثيرا من الفرنسيين- وهم يمثلون عينة من الأوروبيين- قد خاب ظنهم بالمجتمع الأوروبي الواحد، والرفاهية الاقتصادية الموعودة، ويتوقون إلى وطنهم القومي وإن على حساب المجتمع المنقسم كما تعبر عنه البرامج الاقتصادية للفائزين بالجولة الأولى من الانتخابات، ايمانويل ماكرون، الساعي لتحسين القدرة الشرائية للموظفين، ولميزانية أوروبية تتصدى للأزمات، ولتشجيع الاستثمار، وتوسيع برامج الائتمان الضريبي، أي الاستمرار بالسياسات الأوروبية والضريبية المناسبة لأهل المدن، ومارين لوبان، الداعية للانسحاب من أوروبا، وتقليص الهجرة، وخفض سن التقاعد، وفرض ضريبة على المقاولات التي تشغل المهاجرين، وإنهاء التعليم بالمجان لأبنائهم وإلزامهم بدفع نفقات الرعاية الصحية، واستعادة الفرنك الفرنسي، ومراجعة اتفاقيات التجارة الحرة مع العالم، أي سياسات تغازل المهمشين، وتناسب أهل الريف. فبضاعة أوروبا الرائجة الآن العزف على الوتر القومي والمعيشي، من خلال توجيه النقد للمفوضية الأوروبية بقبضتها الصارمة، وتدخلها بتفاصيل السياسات الداخلية لدول الاتحاد الأوروبي، هذا الاتحاد الذي اعتبر في حينه أفضل صيغة وحدوية اختيارية لنقل المعركة بين الأوروبيين من ساحات الحرب إلى ميادين الرفاهية والاقتصاد والتكنولوجيا، ومن الصراع على الحدود إلى التنازل عن بعض السيادة لصالح الاندماج اقتصاديا وسياسيا. لكن هذا الاتحاد عانى أزمة الديون اليونانية - ومن ديون دوله الضخمة بالترليون دولار، كفرنسا 2.3، وبريطانيا 2، وألمانيا 1.966- وما رافقها من إجراءات تقشف ضخمة كما في بريطانيا التي قلصت الإنفاق بحوالي 125 مليار دولار على امتداد الأعوام 2011 حتى 2016، مع إلغاء آلاف الوظائف، وألمانيا التي اعتمدت أكبر خطة تقشف في تاريخها لتوفير نحو 100 مليار دولار حتى عام 2014، وفرنسا التي بدأت خطة تقشف عام 2014 هي الأضخم في تاريخها، مع خطط لخفض الإنفاق بقيمة 50 مليار يورو حتى العام الحالي 2017. وهكذا فالديون والتقشف بالنسبة للوبان واليمين المتطرف هما نتاج سياسات الاتحاد الأوروبي الذي أجج التوترات الاجتماعية، وقلص شروط الرفاهية الاقتصادية، وأطلق العنان للعولمة المتوحشة، وانتهك سيادة فرنسا وثقافتها بالمهاجرين وبالشنغن، مما همش الطبقتين الوسطى والفقيرة وزاد من تراجع أحوالهم الاقتصادية والمعيشية. دول الرفاه الاجتماعي الغربية تعاني من مأزق إسرافها وبالذات خلال فترة الحكم الشيوعي، ما جعلها تدفع الثمن اليوم، خصوصا وأنها لم تعد قادرة على الوفاء بمتطلبات تلك الرفاهية مع نضوب مصادر الدخل والثروة وبالذات خارج الحدود، فكانت الحركات الشعبوية واليمين المتطرف الرد على ذلك المأزق، وهما يستقطبان الغاضبين والمحبطين والعنصريين والمهمشين الذين يطمحون لحياة أفضل بالحمائية، والعملة الوطنية، والحدود المغلقة، والنتيجة تراجع دول الرفاه الانقلابات السياسية أحد تجلياتها.