الحروب.. أشكال يرسمُها الاقتصاد

أخبار متتالية وأحداث متسارعة يمُر بها العالم، فما أن أنهت الأسواق والاقتصادات حديثها حول فيروس كورونا ومتحوراتِه المتعددة حتى بدأت بحديث آخر حول سيناريو غير مرغوب فيه لحوادث استثنائية تقوم فيها كل من روسيا وأوكرانيا بالأدوار الرئيسية، ولكن هذه المرة وبعيدا عن أماكن العرض الشهيرة في الشرق الأوسط فإنها قد اختارت مسرحا واقعيا جديدا ضمن حدود القارة العجوز (أوروبا)، وهو العرض الأول منذ سنوات وقد لا يكون حصريا فمن يدري فهو قد يجوب العالم بعروض متتالية ليفتح بذلك بابا جديدا اسمه شرارة "الحرب العالمية الثالثة"، نعم يا سادة إنها الحرب أو كما يسميها البعض الأزمة الروسية الأوكرانية، وهي التي ظهرت بعد سلسلة من التهديدات لتقول لمن يسأل أيهما السبب الرئيسي في الحروب هل هو الاقتصاد أم السياسة؟، وهو سؤال شهير من شقين، ولجوابه نقول، الاقتصاد غاية والسياسة وسيلة ونحن منذ الصِغر نسمع من يقول "الغاية تُبرِّر الوسيلة"، نعم الاقتصاد هو نتيجة حتمية لحالات سياسية صحيحة وغير صحيحة تقوم بها الحكومات أو الدول، فكما دفع العالم ضريبة الخلاف الصيني الأمريكي منذ عام، فها هو مرة أخرى وبكامل قواه العقلية يدفع فاتورة الحرب الروسية الأوكرانية والتي ظهرت في شكل ارتفاع للغاز والنفط والذهب وامتدت لتشمل القمح والذرة وغيرها الكثير، وهنا يأتي السؤال المهم، فما سبب ارتفاع هذه المواد؟ ولماذا ارتفعت؟ وما هي مساهمات ودور روسيا في الاقتصاد العالمي؟. من الناحية العامة ولفهم تأثيرات الحروب على الاقتصاد العالمي فإنه يجب معرفة أن الحرب هي نزاع مُسلّح أو غير مُسلّح يتم بين دولتين أو أكثر من الكيانات المختلفة وغير المنسجمة، ليكون الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية أو العلاقات الاقتصادية أو غيرها، وذلك للوصول إلى أهداف مُحدّدة مسبقا لدى كل طرف، وبالتالي فإن النتيجة الأولى للحروب هي استنزاف مُقدرات الشعوب، وذلك عن طريق استعمالها واستخدامها بشكل يُساعد العمل العسكري وليس الخطة الاقتصادية للدولة، وهو ما يخلق عجزا ماليا في كثير من الأحيان نظرا لتكاليف الحروب المرتفعة. كذلك فان حالة الحرب نفسها تُغلِق أسواق هذه الدول في وجه البائعين لتحولها إلى أسواق راكدة تشتري وتبيع المواد التي تندرج تحت بند المواد الأساسية أو الضرورية فقط، وذلك نظرا للخوف من أي خسائر أو تأثيرات مالية قد تواجه المستهلكين فيما بعد، أيضا فإن البضائع والمنتجات التي تقوم هذه الدول بإنتاجها وبيعها للخارج قد تتعرض لحالة من النقص في الإمداد أو حتى الانقطاع من الأسواق وهو ما يجعل الدول المستوردة لها تلهث وراء شراء كميات إضافية منها بهدف تخزينها لتلبية حاجات سُكانها حتى تعود هذه المواد للتوفُّر مرة أخرى وهو ما يزيد من الطلب عليها، وبالتالي يرفع من أسعارها، خاصة إذا ما كانت سلعا أساسية وضرورية مثل النفط أو الغاز وهو مربط الفرس في حالتنا هذه. ولفهم تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية فإنه من المهم معرفة الأرقام والحقائق التالية: تمتد روسيا على مساحة 17.13 مليون متر مُكعّب، وهي أراض غنية بالثروات حيث تُقدّر بعض المصادر أنها تحتوي على أكثر من 30 في المائة من موارد العالم الطبيعية، أما بالنسبة لمصادر الطاقة فإنها تُنتج ما يعادل 11 مليون برميل يوميا من النفط الخام، وذلك حسب إحصاءات شهر يناير من عام 2022 وهو ما يعادل وبشكال تقريبي 11% من احتياجات العالم من هذه المادة وهو أيضا ما يُفسر وبشكل واضح أسباب ارتفاع أسعار النفط لتلامس مستويات الـ 105 دولارات للبرميل، وذلك بمجرد اندلاع تلك الحرب، أما الحديث عن الغاز فإن حصة الغاز الروسي من التجارة العالمية تبلغ حوالي 17 % وهو ما يجعلها لاعبا رئيسيا في هذه الصناعة، كذلك وبالحديث عن المواد الغذائية فانه من المهم معرفة أن روسيا قد انتجت في عام الماضي حوالي 76 مليون طن من القمح لتُشكّل صادراتها ما يعادل 17% من حجم تجارة القمح في العالم، وانتقالا للمعادن الثمينة فإن روسيا هي ثالث أكبر مُنتِج للذهب في العالم بعد كل من استراليا والصين حيث تساهم بحوالي 10% من الإنتاج العالمي أما شركة (الروسا) التي تُسيطُر عليها الدولة الروسية فهي تُعد المنتج الأول للألماس الخام في العالم وذلك بإنتاجها ما يُعادل 30% من إجمالي الإنتاج العالمي منه، ناهيك عن النيكل والألومنيوم وغيرها الكثير والكثير من المواد والمنتجات. وأخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي وبرغم الاتفاق التام والكامل على مساوئ الحروب ونتائجها الكارثية وبالرغم من اختلافي الشخصي مع فكرة العنف والتدمير إلا أن هذه الحرب قد كشفت لنا وبشكل واضح أن الدول المُحصّنة اقتصاديا تملك في جيوبها عطرا سحريا ينشُر العبير على كل من حولِها ليعاملها معاملة خاصة حتى وان أخطأت، فالخطأ يُقدّر بفاعله والعقاب يكون بقدر الفقر والضعف، ولذلك فإن القوة الاقتصادية قد تُحوِّل الدول من دول مجاورة إلى قلق مستمر وكذلك فإنها أيضا قد تٌحوّل العالم من محارب ومدافع عن الحق إلى مُستهلك يتمتع بمزايا "حلّال المشاكل" الذي غالبا ما يسعى للصُلح والاتفاق ولو لم تتساو كفتا الميزان، وهنا أتذكر مقولة " تشارلز سمنر" السياسي الأمريكي حين قال "اعطني المال الذي تم إنفاقه في كل الحروب وسوف أكسو كل طفل في العالم..... وسوف ابني مدرسة في كل واد، واُكرّس على كل تلة مكان عبادة".