بعد نصف قرن من الشراكة.. المملكة المتحدة تفارق الاتحاد الأوروبي

لوسيل

الدوحة - قنا

بدأ العد العكسي لخروج بريطانيا التاريخي من الاتحاد الأوروبي، بعد نصف قرن من الشراكة طويلة الأجل بين الطرفين، لم يتبق من عمرها سوى ساعات معدودة تنتهي غدا الجمعة، عندما تدق الساعات معلنة حلول منتصف الليل في بروكسل.

ويأتي سيناريو الانفصال أيضا في ختام مسيرة من المفاوضات والمساومات والمعارك السياسية والحزبية التي هزت المملكة المتحدة، وعصفت باستقرارها الاقتصادي على مدار نحو 1300 يوم.

وكان البرلمان الأوروبي قد أعطى يوم أمس الأربعاء موافقة نهائية على طلاق بريطانيا من التكتل، بتأييد 621 عضوا ومعارضة 49 عضوا وامتناع 13 عضوا عن التصويت، وقبل ذلك بأسبوع صادق مجلس العموم البريطاني نهائيا، على اتفاق بريكست، مفسحا المجال أمام هذا الانفصال الذي كانت له أصداء عميقة في نفوس البريطانيين والأوروبيين معا.

وقد وصف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون التوقيع على اتفاق الانسحاب بأنه يشكل فصلا جديدا في تاريخ بلاده، ولحظة رائعة، يتم فيها تطبيق نتيجة استفتاء 2016 وتنهي سنوات كثيرة من السجال والانقسام، ومن المقرر أن تصدر لندن الملايين من قطع العملة التذكارية بهذه المناسبة، تحمل عبارة السلام والرخاء والصداقة مع كل الأمم ، بالإضافة إلى تاريخ الخروج. وستقدم ساعة /بيج بن/ الشهيرة في لندن عدا تنازليا مساء غد /الجمعة/ يتوقف عند رقم 10 داونينج ستريت.

لكن المراقبين يقولون إنه من غير الممكن في الوقت الحاضر معرفة النتائج التي ستترتب على الانسحاب البريطاني، وإن التاريخ وحده هو الذي سيسمح بإصدار حكم منصف على خيار الانفصال الذي اعتمدته لندن بعد هذه السنوات الطويلة من الشراكة مع جيرانها ومحيطها الأوروبي.

وقد مرت علاقات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي بمحطات عديدة، حيث انضمت لعضويته في يناير 1973 بعد أن رفضت فرنسا طلباتها مرتين الأولى عام 1963، والثانية عام 1967. لكن البريطانيين انقسموا بعد ذلك حول صواب هذه الخطوة، وتم إجراء استفتاء بشأنها عام 1975، وصوت 67 بالمائة منهم مؤيدين البقاء بعضوية المجموعة الاقتصادية الأوروبية، غير أنهم عادوا ليصوتوا لصالح مغادرة الاتحاد بأغلبية اثنين وخمسين بالمائة يوم 23 يونيو عام 2016.

وقد طويت صفحة الجدل والانقسام في بريطانيا عندما حقق حزب المحافظين بزعامة جونسون أكبر غالبية له في مجلس العموم منذ حقبة مارغريت تاتشر في ثمانينات القرن الماضي، بينما مني حزب العمال المعارض بأسوأ هزيمة له منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية.

وقد استغرق الأمر أكثر من ثلاث سنوات ونصف من التفاوض بين لندن وبروكسل، مع رفض البرلمان البريطاني التصويت بالأغلبية لصالح اتفاق انسحاب، كان غارقا في الغموض وعدم اليقين بشكل رئيسي حول العلاقات المستقبلية مع الاتحاد ووضع الحدود الأيرلندية التي تمتد على طول 500 كم ويمر من خلالها 200 طريق، ما يجعل عدد معابرها الحدودية يفوق عدد المعابر الحدودية على طول الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، لكن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ونظيره الأيرلندي ليو فاراد كار نجحا في اختراق الطريق المسدود من خلال اتفاقهما على الترتيبات التي يجب القيام بها بشأن هذه الحدود.

ولا تشكل مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي نهاية المطاف، إذ ستبدأ وفق اتفاق الانفصال على الفور فترة انتقالية مدتها أحد عشر شهرا، لن يتغير خلالها شيء بالنسبة للشركات والمواطنين من الطرفين، لكن لندن ستفقد حقوق التصويت في بروكسل، وسيظل قانون الاتحاد الأوروبي ساري المفعول في أراضيها وستتمكن الحكومة البريطانية من إبرام صفقات تجارية مع دول العالم الأخرى خلال الفترة الانتقالية، التي ستسمح للطرفين بالتفاوض للاتفاق على تفاصيل صفقة ثانية حول علاقتهما المستقبلية.

ومن المنتظر أن تشمل هذه المفاوضات قطاعات التجارة والأمن والشؤون الخارجية ومصايد الأسماك والعلاقات الثقافية التعليمية والطيران وإمدادات الكهرباء وتنظيم تبادل المواد الصحية والأدوية، ومن المرجح أن تبدأ أواخر فبراير، أو أوائل مارس المقبلين. وخلال حملته الانتخابية، قال جونسون إنه سيبرم صفقة تجارية بحلول 31 ديسمبر، وهو الموعد النهائي الذي حددته اتفاقية الطلاق بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، ويمكن أن تطلب لندن تمديدا لمدة سنة أو سنتين إذا قررت ذلك قبل الصيف، لكن جونسون يصر على أنها لن تفعل ذلك.

ويقول المحللون إن سيناريو فشل المفاوضات وعدم التوصل إلى اتفاق في نهاية هذا العام بين الطرفين سيظل قائما، وقد تكون اللحظة الحاسمة والأكثر أهمية على هذا الطريق هي الأول من يناير من العام المقبل، وهو أول أيام المملكة المتحدة خارج قواعد الاتحاد الأوروبي. ويضيف المحللون أن ذلك ستكون له أصداء واسعة داخل بريطانيا على الشركات والمواطنين البريطانيين والأوروبيين، وقد عبر ممثلو صناعة السيارات والمستشفيات والزراعة في لندن عن قلقهم إزاء إعلان وزير الخزانة البريطاني ساجد جاويد بأن حكومته لن تتبع قواعد الاتحاد الأوروبي، الذي حذر من أنه كلما ابتعدت المملكة المتحدة عن معاييره، كلما قل وصولها إلى السوق الموحدة الضخمة في أوروبا.

ويرى محللون في لندن أن توقعات بريطانيا حصاد الكثير من المنافع التجارية نتيجة خروجها من الاتحاد الأوروبي قد تثمر نقيض ذلك تماما، وحذروا من أن استمرار حال عدم اليقين تجاه العلاقات التجارية المستقبلية بين لندن وبروكسل قد يكلف الاقتصاد البريطاني قرابة ستة مليارات دولار بحلول نهاية هذه السنة، ونحو عشرين مليار دولار بحلول نهاية العقد المقبل. ويشككون بوعود رئيس الوزراء البريطاني إنهاء المفاوضات المتعلقة باتفاق تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي على الطراز الكندي، بنهاية الفترة الانتقالية في 31 ديسمبر 2020، وقالوا إن المحادثات قد تستغرق وقتا طويلا.

وفي موازاة ذلك، تريد المملكة المتحدة التفاوض على اتفاقاتها الخاصة للتبادل التجاري الحر مع دول أخرى، خصوصا الولايات المتحدة، في ظل إدارة دونالد ترامب الذي توقع اتفاقا تجاريا مذهلا مع لندن، لكن تقارير اقتصادية بريطانية توقعت ألا تكون المفاوضات بين الطرفين سهلة، لا سيما مع إعلان لندن أنها ستفرض ضريبة رقمية على عمالقة أمريكيين مثل أمازون و غوغل و آبل ، رغم تهديد الأمريكيين بتدابير مقابلة، كما حذرت التقارير من احتمال اندلاع حرب دبلوماسية بين رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسبب سماح جونسون لشركة هواوي الصينية بالمشاركة في تطوير شبكة الجيل الخامس في بريطانيا.

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيضعف بلا شك الاتحاد الأوروبي اقتصاديا وسياسيا، فقد كانت بريطانيا ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، ومساهما رئيسيا في ميزانيته، وقوة عسكرية رئيسية وواحدة من قوتين نوويتين في الاتحاد وعضوا دائما في مجلس الأمن، وفي مقابل نمو الاقتصاد الصيني الهائل، وميل الولايات المتحدة المتزايد نحو الحمائية سيجد الاتحاد الأوروبي أنه بحاجة لسياسات وخطط أقوى وأكثر صرامة، تضمن لشركاته ومؤسساته منافسة الآخرين في الأسواق الدولية وفي دول الاتحاد نفسها.

ولخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة على المدى الطويل، فقد يشعل في اسكتلندا جذوة الرغبة في الانفصال عن لندن مقابل الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي، الذي يبلغ عدد سكان دوله حوالي 450 مليون نسمة، مما سيفتح فرص عمل كبيرة للاسكتلنديين، ولن يكون بمقدور الشباب البريطاني بعد فراق جزيرتهم للاتحاد الأوروبي السفر بيسر وسهولة إلى بلدان الشمس مثل قبرص واليونان والبرتغال وإسبانيا، والذي كان بعضه يتم بواسطة خط السكة الحديد الرابط بين فرنسا وبريطانيا عبر بحر المانش، ولن تظل بريطانيا الفردوس الموعود للعمال المهرة بأجورهم المنخفضة القادمين من أوروبا الشرقية.