بعد أكثر من ثمانية عشر اجتماعاً وزارياً، وثلاثين جولة من المفاوضات الصعبة على مدار ثمانية أعوام، دشن قادة خمس عشرة دولة من آسيا والمحيط الهادئ بالعاصمة الفيتنامية هانوي مطلع هذا الأسبوع، إطلاق أكبر كتلة للتجارة الحرة بالعالم، تحت اسم اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، والتي تم توقيعها على هامش القمة الافتراضية الـ37 للآسيان.
ومن المتوقع أن يؤدي إنشاء هذه المنطقة الاقتصادية الشاسعة إلى تسريع تحول التجارة العالمية نحو شرق آسيا والابتعاد عن الغرب، وبدء تنشيط التجارة العالمية، التي تقلصت بسبب جائحة كورونا.
وتضم الاتفاقية الدول العشر الأعضاء برابطة الآسيان وهي: إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلند وبروناي وفيتنام ولاوس وميانمار وكمبوديا، بالإضافة إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، وتشكل هذه الدول مجتمعة سوقا يبلغ تعداد سكانه أكثر من مليارين ومائتي مليون نسمة، أو قرابة ثلاثين بالمائة من سكان العالم، مع ناتج محلي إجمالي يزيد على ستة وعشرين تريليون دولار أمريكي، وهو ما يشكل ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وثلث التجارة الدولية، ومن المتوقع أن تضيف هذه الكتلة المدعومة من الصين مائة وستة وثمانين مليار دولار أمريكي إلى الاقتصاد العالمي من خلال تحسين التجارة الإقليمية.
وجاء توقيع الاتفاقية بينما يكافح الاقتصاد العالمي، لتجاوز ما قد يكون أكبر ركود منذ الكساد الكبير خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، بسبب التداعيات الناجمة عن جائحة كورونا، وستغطي الاتفاقية كل شيء بدءاً من التجارة والخدمات إلى الاستثمار والتجارة الإلكترونية والاتصالات وحقوق النشر، وتهدف إلى تحرير التجارة والاستثمار عبر منطقة آسيا والمحيط الهادئ من خلال التخلص التدريجي من تسعين بالمائة من التعريفات الجمركية على الواردات بين الموقعين.
ويقول محللون آسيويون، إن الاتفاقية ستعزز التجارة والاستثمارات عبر الحدود لأنها ستعمل على تقليل الحواجز أمام التجارة وتوسيع السوق الإقليمية وتعزيز سلاسل التوريد، وستجعل كل عضو بالاتفاقية أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب.
ولاحظ المحللون أن تأثير الصفقة على التجارة سيكون تصاعدياً، حيث أدت الصفقات التجارية الإقليمية الحالية بالفعل إلى خفض التعريفات الجمركية.. ويأخذ المحللون على الصفقة أنها تتضمن بنداً يحظر على الأعضاء مطالبة الشركات الأجنبية التي تتوسع بأسواقها، تقديم تقنياتها للشركات والمصنعين المحليين، لكنها لا تنص على حظر مماثل على المتطلبات الوطنية لنقل أو توفير الوصول إلى بعض أسرار الملكية الفكرية، حيث اكتفت الدول الأعضاء بالاتفاق على مواصلة المناقشات حول هذه القضية، كما أن حماية البيئة وحقوق العمال ليست جزءاً من الاتفاقية.
وفيما يتعلق بالرسوم الجمركية، لن تلغي الصين ولا كوريا الجنوبية الرسوم المفروضة على السيارات اليابانية، ولن تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ بشكل فوري، وإنما خلال العامين المقبلين بعد أن تصدق جميع الدول المشاركة عليها.
وينظر للاتفاقية على أنها المرة الأولى التي توافق فيها القوى المتنافسة بشرق آسيا مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية على الدخول في اتفاقية تجارة حرة مشتركة، كما أن الاتفاقية أعطت الأولوية لعقد صفقة بين دول بمراحل ومستويات مختلفة ومتفاوتة وليست متساوية من التنمية الاقتصادية، حيث تشكل مزيجا من الاقتصادات المتقدمة والنامية والفقيرة.
وقد تلقت فكرة الشراكة الاقتصادية الشاملة ضربة قوية تمثلت بانسحاب الهند من المفاوضات الخاصة بتفاصيل الاتفاقية، نهاية العام الماضي، حيث سيؤدي غيابها إلى تقليل الفوائد الاقتصادية للمنطقة، خاصة وأن للهند سوقا ضخمة تضم أكثر من مليار وثلاثمائة مليون مستهلك.
وكان السبب الرئيسي لقرار الهند بعدم الانضمام إلى التجمع هو الخوف من تعرض مزارعها ومصانعها لمزيد من المنافسة الأجنبية، إلى جانب القلق من تدفق السلع الرخيصة المصنعة من الصين على الأسواق الهندية.
وعلى الرغم من أن انسحاب نيودلهي من المفاوضات أزال عقبة كبيرة عن طريق إبرام الاتفاقية، إلا أن دول الكتلة أبقت الباب مفتوحا أمامها للانضمام إليها متى شاءت، وقال مراقبون اقتصاديون إن هذا الوضع يظهر رغبة الصين وحرصها على بناء جسور اقتصادية متينة مع ثالث أكبر اقتصاد بالمنطقة.
ويضيف المراقبون أن اتفاقية الشراكة ترسخ طموحات الصين الجيوسياسية الإقليمية الأوسع حيال مبادرة الحزام والطريق، في إشارة إلى مشروع بكين الاستثماري الهادف إلى توسيع نفوذ الصين عالميا، وفي هذا السياق تفوقت الآسيان على الاتحاد الأوروبي كأكبر شريك تجاري للصين بالربع الأول من هذا العام، وتمثل التجارة الصينية مع آسيا وأوروبا حاليا سبعين بالمائة من إجمالي التجارة الخارجية، كما ينظر إلى اتفاقية الشراكة على أنها فرصة للصين لصياغة قواعد التجارة بتلك المنطقة، بعد سنوات من تراجع الدور الأمريكي فيها خلال عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي سحب بلاده من اتفاقية تجارية تشمل اثنتي عشرة دولة تعرف باسم الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، وأعاد التفاوض مع كندا والمكسيك بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية المعروفة باسم نافتا .
وعلى الرغم من أنه سيكون بإمكان الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات الاستفادة من اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة عبر فروعها بعدد من البلدان المنضوية فيها، إلا أن المحللين يشيرون إلى أن الاتفاقية قد تدفع الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن لإعادة النظر في انخراط واشنطن بتلك المنطقة، وقد تساعد بتخفيف التوترات بين بلاده والصين، وتكون بمثابة حافز لواشنطن للعودة إلى مسار التعاون الاقتصادي الدولي.