ارتفعت أسعار الذهب إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق، في ظل غياب أي بوادر لحل أزمة إغلاق الحكومة الأمريكية، وسط تنامي التوقعات بخفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة هذا الشهر.
وخلال تداولات الأسبوع الماضي، صعدت أسعار العقود الآجلة للمعدن الأصفر تسليم ديسمبر بنسبة 0.3% أو 12.9 دولار عند 3989.20 دولار للأوقية، بعدما لامست مستوى قياسي عند 4000 دولار في وقت سابق من جلسات اخر الأسبوع الماضي.
فيما أضاف مؤشر الدولار -الذي يقيس أداء العملة الأمريكية أمام سلة من ست عملات رئيسية- نحو 0.15% ليتداول عند 98.25 نقطة.
ووفقًا لتقرير نشرته وكالة بلومبيرغ، فإن هذا الاندفاع الاستثماري يعكس مكانة الذهب التاريخية كأصل يحافظ على القيمة ويؤمّن السيولة في أوقات الاضطراب.
ولطالما اعتُبر الذهب ملاذا للمستثمرين عبر القرون بفضل قدرته على الحفاظ على القيمة وسهولة نقله وبيعه في أي مكان، غير أن هذه النظرة ليست محل إجماع.
المستثمر الشهير الثري وارن بافيت وصف الذهب في رسالة إلى مساهمي شركة بيركشاير هاثاواي عام 2011 بأنه أصل عقيم ، مضيفًا: إذا امتلكت أونصة من الذهب إلى الأبد، ستظل تملك أونصة واحدة في النهاية
ورغم ذلك، فإن الإقبال الحالي على المعدن النفيس جاء نتيجة مباشرة لمزيج من العوامل التي أوردتها بلومبيرغ وهي:
تصاعد الحرب التجارية التي يقودها ترامب.
تراكم الدَّين الأمريكي إلى مستويات قياسية أثارت قلقًا بشأن استدامة المالية العامة.
الضغط المتزايد على الاحتياطي الفدرالي لخفض أسعار الفائدة.
وأظهرت بيانات جمعتها الوكالة أن إجمالي حيازات الصناديق المتداولة المدعومة بالذهب ارتفع في بداية سبتمبر إلى أعلى مستوى منذ يونيو 2023.
وتشير بلومبيرغ إلى أن الموجة الصعودية للذهب بدأت في مطلع 2024، مدفوعة بعمليات شراء ضخمة من البنوك المركزية، خصوصًا في الأسواق الناشئة الساعية إلى تقليص اعتمادها على الدولار الأمريكي. وحسب مجلس الذهب العالمي، اشترت البنوك المركزية أكثر من ألف طن من الذهب في 2024 للعام الثالث على التوالي، لتصبح هذه المؤسسات حاملة لما يقارب خُمس الذهب المستخرج عبر التاريخ.
هذه الوتيرة تسارعت بعد غزو روسيا لأوكرانيا وتجميد الغرب للأصول الروسية، وهو ما كشف هشاشة الاحتياطيات الأجنبية أمام العقوبات، ودفع العديد من الدول إلى تنويع مخزوناتها باتجاه الذهب. ورغم أن وتيرة المشتريات تباطأت مع ارتفاع الأسعار، فإن دور البنوك المركزية ظل بمثابة الدعامة الأساسية للاتجاه الصعودي.
وفي موازاة ذلك، أشار التقرير إلى العمق الثقافي للذهب في الهند والصين، حيث يُعتبر اقتناء السبائك والمجوهرات تقليدًا متجذرًا يرمز إلى الازدهار والأمان.
الأسر الهندية وحدها تمتلك نحو 25 ألف طن من الذهب، أي أكثر من 5 أضعاف مخزونات فورت نوكس الأمريكية (وهي مخزن لمعظم احتياطيات الذهب الأمريكية)، هذا الطلب الشعبي غالبًا ما يوفر أرضية سعرية حين يتراجع إقبال المستثمرين الماليين.
التقرير لفت إلى أن ملكية الذهب ليست بلا تكلفة، إذ يواجه المستثمرون مصاريف التخزين والحماية والتأمين، إضافة إلى فروق الأسعار بين المراكز العالمية.
ففي وقت سابق من العام، أدى الخوف من إدخال الذهب ضمن الرسوم الجمركية إلى ارتفاع أسعار العقود المستقبلية في بورصة نيويورك كومكس بشكل كبير عن الأسعار الفورية في لندن. هذا الفارق دفع إلى سباق عالمي لنقل السبائك إلى الولايات المتحدة لتحقيق أرباح من فروق الأسعار بمئات ملايين الدولارات.
لكن هذه الموجة توقفت في أبريل الماضي بعدما أوضحت إدارة ترامب أن الذهب سيُستثنى من الرسوم الجمركية. ورغم جدل لاحق أثارته تصريحات مصلحة الجمارك الأمريكية بشأن بعض السبائك، تدخل ترامب نفسه ليؤكد أن المعدن لن يخضع للضرائب. بيانات كومكس أظهرت أن المخزونات ارتفعت بأكثر من 75% منذ بداية 2025 وحتى نهاية أغسطس
وأوضحت بلومبيرغ أن حركة المعدن عبر العالم معقدة أكثر مما يُعتقد، فالمواصفات القياسية للسبائك تختلف بين المراكز. ففي لندن، يعتمد معيار 400 أونصة، بينما تقتضي عقود كومكس سبائك بوزن 100 أونصة أو كيلوغرام واحد.
هذا التباين يفرض إعادة صهر السبائك في مصافي سويسرا لإنتاج الأحجام المطلوبة قبل شحنها إلى الولايات المتحدة، ما يخلق اختناقات كلما زاد الضغط على إعادة توزيع المخزونات.
يرى الخبير المتخصص في شؤون الذهب الدكتور هاني فايز حمد بان أسعار الذهب قفزت في الأيام الأخيرة إلى مستويات قياسية، متجاوزة 4000 دولار للأونصة للمرة الأولى في التاريخ، بزيادة بلغت 34 بالمئة منذ بداية العام الجاري. ووفقًا لتوقعات بنك جي بي مورغان ، فإن الأسعار مرشحة
لمزيد من الارتفاع، لتتجاوز حاجز 4500 دولار خلال الفترة المقبلة، في ظل استمرار الطلب القوي من البنوك المركزية والمستثمرين.
مؤكدا بان هذا الصعود التاريخي لا يرتبط فقط بموجة استثمارية عابرة، بل يعكس تحولاً في سلوكيات الدول والمؤسسات المالية تجاه الدولار الأمريكي وسنداته فبعد أن كان الدولار لعقود طويلة مرادفًا للاستقرار، باتت الشكوك تتزايد بشأن مستقبله، خاصة في ظل تصاعد الديون الأمريكية وتفاقم الأزمات الجيوسياسية والتجارية.
يرى د هاني حمد أن ما نشهده اليوم هو انعكاس مباشر لفقدان الثقة في النظام المالي الدولي، مضيفًا: هو أكثر من مجرد فقدان للثقة، نحن أمام حالة من عدم اليقين الكبير في النظام الاقتصادي العالمي. البنوك المركزية زادت من احتياطاتها الذهبية في السنوات الأخيرة، وعلى رأسها الصين، وهو ما يعكس خوفًا من العقوبات الأمريكية ومن استخدام الدولار كسلاح
يقول الخبير الدكتور هاني: لم يعد الذهب مجرد ملاذ آمن تقليدي، بل أصبح الملاذ الآمن للاقتصاديات كافة حول العالم. نحن أمام مرحلة انتقالية لإعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي، والذهب سيلعب الدور الأساسي فيها .
وتوقع الدكتور هاني أن تتداول أسعار الذهب ضمن نطاق يتراوح بين 4500 إلى 4800 دولار للأوقية خلال نهاية العام الجاري، بعد أن كانت عند مستوى 2100 دولار فقط في بداية أبريل 2024، هذه الزيادة تعنى قفزة تقارب 2000 دولار خلال عام واحد، ما يعكس أداءً استثنائيًا يجعل الذهب في صدارة الأصول الاستثمارية الأكثر ربحية عالميًا هذا العام.
وأضاف الخبير في شؤون الذهب: باحتساب النسبة، فقد حقق الذهب عائدًا سنويًا يقترب من 45%، وهو ما يتجاوز بكثير أداء الأسواق المالية الأخرى مثل الأسهم والسندات والعملات المشفرة التي شهدت تقلبات حادة .
في تفسيره لأسباب ارتفاع أسعار الذهب العالمية، أوضح الدكتور هاني حمد أن هناك مزيجًا من العوامل يقف وراء هذا الاتجاه الصعودي الحاد، أبرزها تصاعد المخاوف الجيوسياسية، وعدم استقرار السياسات النقدية في عدد من الاقتصادات الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تدفع المستثمرين إلى البحث عن الذهب كملاذ آمن.
وأشار إلى أن التوترات الجيوسياسية، وتزايد النزاعات الإقليمية، بجانب تباطؤ الاقتصاد الصيني وأزمات سلاسل التوريد، كلها عوامل تدعم ارتفاع الطلب على الذهب وتزيد من زخم الأسعار .
ويتوقع الدكتور هاتي حمد الخبير في شؤون الذهب بان أسعار الذهب سيصل الى 5000 دولار للأوقية قبل 2027
في إطار تقديمه لتوقعات أسعار الذهب خلال السنوات المقبلة، صرح الدكتور هاني حمد بثقة أن الوصول إلى مستوى 5000 دولار للأوقية قد يتحقق أسرع من المتوقع، وقال: بينما كان الهدف السابق يُقدّر تحقيقه بين 2028 و2030، إلا أن المؤشرات الراهنة تدفعني إلى تعديل توقعاتي إلى عام 2027 على أقصى تقدير، بل وربما قبل ذلك، إذا استمرت الضغوط الاقتصادية والمالية الحالية .
أكد الدكتور هاني أن الوقت الحالي ليس مناسبًا للتخارج من الاستثمار في الذهب. وأضاف: من يمتلك الذهب عليه الاحتفاظ به كاستثمار طويل الأجل. ومن يخطط للدخول إلى السوق، فإن التوقيت الحالي يُعتبر فرصة سانحة للشراء قبل انطلاق موجة الصعود التالية .
وتجدر الإشارة إلى أن أسعار الذهب لطالما كانت مرآة لحالة الاقتصاد العالمي. ففي أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008، قفزت الأسعار إلى نحو 1920 دولارًا للأوقية بحلول عام 2011 مع بحث المستثمرين عن الملاذات الآمنة، غير أن الأسعار تراجعت لاحقًا مع تعافى الاقتصاد العالمي وسيطرة البنوك المركزية على معدلات التضخم.
أما اليوم، فنحن أمام مشهد مختلف، إذ أن تراكم الديون السيادية، وتآكل الثقة في العملات الورقية، وزيادة الطلب العالمى على الذهب من قبل البنوك المركزية - خصوصًا في الصين والهند وروسيا - كلها عوامل تدفع إلى استمرار صعود الأسعار بوتيرة متسارعة.
يظل الذهب أحد الأصول الاستثمارية القليلة التي أثبتت قدرتها على الحفاظ على القيمة بل وتحقيق مكاسب أثناء الأزمات المالية، وفى ظل المخاطر المتزايدة في الأسواق العالمية، يواصل المستثمرون ضخ السيولة في أسواق الذهب العالمية، مما يعزز من الاتجاه الصعودي.
وفقًا لأحدث التقارير الصادرة عن مجلس الذهب العالمي، سجلت مشتريات البنوك المركزية من الذهب مستويات قياسية خلال 2024، في محاولة لتنويع الاحتياطيات وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي.
وفقًا لمحللي المعادن الثمينة في مجلس الذهب العالمي (WGC)، يبدو مستقبل أسعار الذهب إيجابيًا على مدى الأشهر الثمانية عشر القادمة.
كتب جيتيندرا خادان، كبير الاقتصاديين في فريق التوقعات بمجلس الذهب العالمي، وكالترينا تيماج، محللة الأبحاث: ارتفعت أسعار المعادن الثمينة إلى مستويات قياسية في النصف الأول من عام 2025، بعد زيادة بنسبة 20% في عام 2024. وقد قاد الارتفاع الذهب، مدفوعًا بضعف الدولار، وتقلبات أسعار الفائدة، وبيئة اقتصادية وجيوسياسية شديدة الاضطراب، فضلاً عن قوة الطلب الاستثماري.
باستخدام إطار تقييم الذهب الخاص بهم، قام مجلس الذهب العالمي بتحليل ما تشير إليه توقعات السوق الحالية لأداء الذهب في النصف الثاني من عام 2025، بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من المحركات التي يمكن أن تدفع أسعار الذهب إلى الأعلى أو الأسفل. كتبوا:
إذا كانت التوقعات الاقتصادية الكلية للاقتصاديين والمشاركين في السوق صحيحة، فإن تحليلنا يشير إلى أن الذهب قد يتحرك بشكل عرضي مع ميل طفيف نحو الارتفاع - بزيادة إضافية بنسبة 0-5٪ في النصف الثاني من العام. ومع ذلك، نادرًا ما يتطور الاقتصاد وفقًا للإجماع. إذا تدهورت الظروف الاقتصادية والمالية، مما أدى إلى تفاقم ضغوط الركود التضخمي والتوترات الجيوسياسية، فقد يزداد الطلب على الملاذ الآمن بشكل كبير، مما يدفع أسعار الذهب إلى الارتفاع بنسبة 10-15٪ أخرى من المستويات الحالية. من ناحية أخرى، فإن حل النزاعات على نطاق واسع ومستدام - وهو أمر يبدو غير مرجح في البيئة الحالية - سيؤدي إلى تراجع الذهب عن مكاسبه هذا العام بنسبة 12-17٪.
يشير مجلس الذهب العالمي إلى أن أداء الذهب كان قياسيًا حتى الآن في عام 2025.
أنهى الذهب النصف الأول من العام باعتباره أحد أفضل الأصول الرئيسية أداءً، حيث ارتفع بنحو 26٪ خلال الفترة ، اشار محللون الى ان الذهب سجل 26 مستوى قياسيًا جديدًا على الإطلاق في النصف الأول من عام 2025، بعد أن تجاوز بالفعل 40 مستوى قياسيًا جديدًا في عام 2024.
وقال المحللون إن هذا الأداء المتميز كان نتيجة مجموعة من العوامل، بما في ذلك ضعف الدولار، وتقلبات العائد بسبب توقعات خفض أسعار الفائدة في المستقبل، و زيادة التوترات الجيوسياسية - بعضها مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالسياسة التجارية للولايات المتحدة .
وأضافوا: كما جاء طلب أقوى من زيادة نشاط التداول خارج البورصة (OTC) والبورصات والصناديق المتداولة في البورصة (ETF). وقد أدى ذلك إلى متوسط حجم التداول اليومي للذهب في النصف الأول من العام بلغ 329 مليار دولار - وهو أعلى رقم نصف سنوي تم تسجيله على الإطلاق. كما ساهمت البنوك المركزية في الشراء بوتيرة قوية - حتى لو لم تصل إلى المستويات القياسية في الأرباع السابقة.
يشير مجلس الذهب العالمي إلى أن أحد أهم الموضوعات الكلية حتى الآن هذا العام كان الأداء الضعيف للدولار الأمريكي، الذي سجل أسوأ بداية سنوية له منذ عام 1973، وهو ما انعكس أيضًا في الأداء الضعيف لسندات الخزانة الأمريكية، التي كانت مرادفًا للأمان لأكثر من قرن. ومع ذلك، فقد تعثرت التدفقات إلى سندات الخزانة الأمريكية في أبريل في سياق تصاعد حالة عدم اليقين.
على العكس من ذلك، كان الطلب على صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب قويًا بشكل خاص في النصف الأول من العام، مع تدفقات كبيرة في جميع المناطق ، قال خبراء بحلول نهاية النصف الأول من العام، أدى التأثير المشترك لارتفاع أسعار الذهب وتدفق المستثمرين إلى الأصول الآمنة إلى رفع إجمالي الأصول الخاضعة للإدارة (AUM) لصناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب عالميًا بنسبة 41٪ لتصل إلى 383 مليار دولار. وزادت الحيازات الإجمالية بمقدار مذهل بلغ 397 طنًا (أي ما يعادل 38 مليار دولار) لتصل إلى 3616 طنًا - وهو أعلى مستوى شهري منذ أغسطس 2022.
لعبت المخاطر المتعلقة بالتجارة وغيرها من المخاطر الجيوسياسية دورًا كبيرًا، ليس فقط بشكل مباشر، ولكن أيضًا من خلال دفع التغيرات في الدولار وأسعار الفائدة وتقلبات السوق على نطاق أوسع - وكل ذلك أضاف إلى جاذبية الذهب كملاذ آمن ، أضافوا. بشكل عام، ساهمت هذه العوامل بحوالي 16٪ في عوائد الذهب على مدار الأشهر الستة الماضية.