أكد الأستاذ بمعهد الدعوة والعلوم الإسلامية للشؤون الأكاديمية في الدوحة فضيلة الشيخ الدكتور عبد السلام بن مقبل المجيدي، أن موسم الحج يدعو للتفكير الجاد في الوحدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين المسلمين والتفكير في إنشاء سوق إسلامية مشتركة، ليكون طريقا لوحدة اقتصادية إسلامية كبرى، لما فيه من إذابة للفوارق والطبقات، وخفض الجناح وطريقة تبادل الكلام على الهيئة الأطيب والأرضى لله سبحانه وتعالى.
وأشار فضيلة الشيخ المجيدي إلى أن الوحدة التي جمعت المسلمين من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب هي طريق إلى وحدتهم في واقع حياتهم.. وإلى نص الحوار:
- بدايةً البعض يعتقد أنه لا تجوز التجارة أثناء موسم الحج أو اقتران نيتي الحج والتجارة معاً.. ما تعليقكم على ذلك؟
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد، فإن الله سبحانه وتعالى قد فصَّلَ كثيراً من مسائل الحج في القرآن الكريم وهذا بخلاف مسائل الصلاة التي يجدها الإنسان في السنة النبوية، لكن الحج يجد كثيرًا من مسائله الأساسية وحتى الواجبات وحتى بعض السنن مبثوثة في القرآن الكريم سواء كان ذلك في قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، أو في الآيات من 195 إلى 207 من سورة البقرة وكذلك في سورة الحج.
ومن المسائل التي ذكرها الله سبحانه وتعالى أن هناك منافع في الحج فقال: لِيَشْهُدوا مَنافِعَ لَهُمْ ، والمنافع هنا تكون دنيوية أو منافع أخروية وكلاهما متوفر في الحج، ومن هذه المنافع الدنيوية لقاء الناس وتحاببهم وتعارفهم وترابطهم والوحدة العظيمة التي يظهرون بها وينبغي أن تنعكس في واقع حياتهم عندما يعودون بعد الحج، ومن المنافع تبادل الخبرات، والتبادل التجاري، فإنه لا يتوقع أن يأتي الناس إلى ذلك المكان المبارك سواء في مكة المكرمة أو عرفات أو منى أو مزدلفة ولا يوجد من الخدمات التجارية والمنافع المتبادلة ما يعينهم على إكمال أنساكهم، ولذلك قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ، وهذه الآية نص في جواز التجارة في الحج وهو ما ذهب إليه ابن عباس، وأول ما بدأت الشريعة الإسلامية ونزل القرآن، فقال الله تعالى في سورة المزمل وهي السورة الثالثة من سور القرآن: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، يبتغون من فضل الله يعني التجارة.
وهذه من المنافع العظيمة وهي فرصة للتفكير في إنشاء المسلمين لسوق إسلامية مشتركة.
- هل تعتقد أن موسم الحج يمكن أن يكون طريقا لوحدة اقتصادية إسلامية كبرى بين الدول الإسلامية؟
نعم، في الحج تذوب الفوارق والطبقات وكلهم يلبسون الثياب البيض، شارات الرضا من ربهم سبحانه وتعالى، وفي الحج يتعودون على عدم الرفث والفسوق وعلى عدم الجدال، بل وعلى خفض الجناح وطريقة تبادل الكلام على الهيئة الأطيب والأرضى لله سبحانه وتعالى، ومن ثم فإن هذا يؤدي إلى التفكير الجاد الحقيقي في أن يجعلوا هذه الوحدة التي جمعتهم من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب واقعا في حياتهم، سواء في المجالات الاجتماعية والسياسية أو الاقتصادية.
- لكن التجارة نفسها ربما تحمل أحد مبطلات الحج كالجدال مثلاً والله عز وجل يقول فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ؟
الجدال يوجد في التجار وحتى بين الزوجين أو بين الإخوة وليس خاصا بالتجارة فقط، والحقيقة أن من أهم المقاصد في تشريع الحج هو منع الجدال في أن يتعود الناس أن يستمعوا لبعضهم بهدوء ويتحاوروا بهدوء بدون جدال صاخب، والنبي صلى الله عليه وسلم، بيَّنَ أن التجارة بشكل عام وخارج الحج أفضلها ما يدخل في قوله، صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأ سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى ، فإذا كان هذا خارج الحج فمن باب أولى داخل الحج، ووجود التجارة لا يعني بالضرورة وجود الجدال، بالعكس وجود التجارة مع تعود الإنسان على عدم الجدال فيها خارج الحج يعوده على خفض الجناح داخل الحج ومن ثم التسامح خارج الحج سواء من البائع أو المشتري.
- مساومة و فصال الحاج للتجار أثناء الشراء أو أثناء استقلال مواصلات الأجرة.. هل يعد ذلك من قبيل الجدال في الحج؟
لا يحرم عليه إذا قيل له هذا بكذا أن يقول فلو كان بكذا أو كذا ولكن دون أن تخرج المساومة عن حيز الأدب اللائق والهدوء المطرد وسمة الذلة للمؤمنين والأصل ترك المساومة لأن الأصل أن البائع في ذاته قد يضاعف عليه العقوبة لو كذب في سلعته لأنه انتهك شهرا حراماً ومكاناً حراما، أما المساومة التي خرجت عن حد التسامح الذي ذكره النبي، صلى الله عليه وسلم، أصبحت نوعا من الجدل، فمن ثم لا ينبغي للإنسان أن يعود نفسه عليه.
- لماذا اقترنت فريضة الحج بأمور حياتية مادية بعكس الصلاة؟ مثلاً في قوله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ؟
هذا من أهم الفوارق بين الحج والصلاة وهو يدل على تنوع النظام العبادي في الإسلام بحيث يربي المسلم على المجالات الحياتية المختلفة، فعبادة مثل عبادة الصلاة يحرم فيها الأكل والشرب والكلام، الصوم يحرم فيه الأكل والشرب ولكن لا يحرم الكلام، بل يحرم الكلام البذيء فقط، عبادة مثل عبادة الحج لا يحرم فيها الأكل ولا الشرب ولكن يحرم فيها الكلام المباح إذا وصل إلى حد الجدال، ثم يحرم فيها الفسوق والرفث، أما الزكاة عبارة عن عبادة متعدية وهو يدل على تنوع النظام العبادي بصورة مدهشة تجعل الإنسان يقول بأن هذا هو الدين الحق، لا نقول لماذا حُرم الانشغال بالتجارة عن حضور خطبة الجمعة بينما أبيح في الحج، بل نقول: يا لجمال الإسلام لأنه نوَّعَ علينا بين هذه العبادات ولو كانت عبادة واحدة لملها الناس.
وهذا يجعل من النظام الإسلامي نظاما إعجازيا يدل على عظمة الإسلام وهذا بعكس كثير من الأنظمة التي تنتسب إلى أديان يسمونها أديان أخرى.
- موضوع آخر متعلق بأصحاب حملات الحج.. في الأصل هم يمتلكون وكالات لتسيير رحلات للحج والعمرة.. هل يجوز لصاحب الحملة أداء فريضة الحج أو العمرة أثناء رحلات قام بتسييرها في الأصل لتحقيق الربح؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ، وقال صلى الله عليه وسلم، عندما أخبره أبو سعيد الخدري بأنه قام برقية أحد السادات بمقابل قطيع من الغنم: وما يدريك أنها رقية كلها ، يعني يحل لك أن تأكلها، ومن هذا يحل للإنسان أن يجمع بين نظام عبادي قابل لأن يجمع إليه نظاما آخر من الأنظمة مثل النظام التجاري، ومن ذلك الحج، يجوز للإنسان أن يجمع بين الحج والتجارة، ولكن من الناحية الإدارية فإن هذا يعود للتنظيمات الإدارية ورؤية البلدان والمسؤولين المشرفين على حملات الحج وما إذا كان مناسبا لخدمة الحجاج أم لا.
- لكن هنا نية الخروج للعمل تكون غالبة على نية العبادة؟
الحج من العبادات التي يجوز فيها التشريك مع نية دنيوية ومن هذا للحاج أن يعزم أنه يأتي للحج وإن تيسر فإنه سيتاجر، أو أن يسير حملة للحج ويحج هو، وهناك عبادات لا يحل فيها التشريك في النية بين دنيوية وأخروية، فمثلا قال النبي، صلى الله عليه وسلم: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ، والنبي ذكر في موضوع الإخلاص في العمل: ولا تقولوا هذا لله وهذا لوجوهكم، فإنه لوجهكم وليس لله منه شيء ، وقال النبي: قال تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه ، فخلاصة القول إن هناك عبادات لا يجوز فيها التشريك وأخرى يجوز فيها التشريك.
والأصل أن الإنسان يأتي في الحج من أجل أن يغسل قلبه من أدران الدنيا ويتنزه عن لغب الحياة ومتاعبها، حيث يجد أقصى درجات النقاء والصفاء في تنقله بين عرفات ومزدلفة والمسجد الحرام، وبين الطواف والسعي وسائر المناسك، ولذلك قال تعالى: لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ .
وقد قال علماؤنا:
طف بي بمكة إني هدّني تعبي *** واترك عناني فإني هاهنا أربي
ودع فؤادي يمرح في مرابعها*** ففي مرابعها يغدو الفؤاد صبي