سياسات لتحويل «الفصحى» إلى قوة ناعمة للدول العربية

alarab
محليات 27 ديسمبر 2015 , 02:08ص
اسماعيل طلاي
أّكد باحثون وخبراء لغويون وأساتذة لسانيات ضرورة وضع سياسات لغوية كفيلة بأن تجعل اللغة العربية إحدى أدوات القوة الناعمة للدول العربية، وتقديم تعليم بجودة عالية باللغة العربية، وبناء ثنائية لغوية متوازنة لا تكتفي بالانفتاح على اللغة الإنجليزية أو الفرنسية لتسريع وتيرة التحديث.

وفي ندوة حول أوضاع اللغة العربية الراهنة في ندوة يعقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعجم الدوحة التاريخي للغة العربية على مدى يومي 26 و27 ديسمبر 2015، تحت عنوان «اللغة العربية في بيئات ومجالات مختلفة» وتعقد هذه الندوة في إطار الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية الموافق يوم 18 ديسمبر من كل عام، أشار باحثون إلى دراسات بيّنت أن العالم يفقد واحدة من لغاته الـ5000 كل 14 يوما، وأن هناك نحو 600 لغة قد أخذت طريقها التدريجي نحو الانقراض، إلا اللغة العربية لا تزال تحظى بمكانة جيدة بعيدًا عن خطر الاندثار، على الرغم من ضعف المحتوى العربي لحد الآن، فهي من بين الخمس لغات الأولى في العالم من حيث عدد المتكلمين، وهي ضمن اللغات العشر الأكثر استعمالا في العالم.

وناقش باحثون وخبراء لغويون وأساتذة لسانيات أوضاع اللغة العربية الراهنة في ندوة يعقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعجم الدوحة التاريخي للغة العربية على مدى يومي 26 و27 ديسمبر 2015، تحت عنوان «اللغة العربية في بيئات ومجالات مختلفة». وتعقد هذه الندوة في إطار الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية الموافق يوم 18 ديسمبر من كل عام.

اللغة الثانية نقطة ضعف
شكّل واقع اللغة العربية ووضعها ضمن خريطة اللغات في العالم محورًا رئيسا في جلسات اليوم الأول من الندوة، وأبرز الدكتور محمد بلبول الأستاذ في برنامج ماجستير «اللسانيات والمعجمية العربية» في معهد الدوحة للدراسات العليا أنه من الصعب وصف لغة من اللغات بالكمال بناء على معايير موضوعية، في المقابل يمكن تحديد موقع لغة ما في النطاق العالمي مستندين إلى مجموعة من المؤشرات تشبه إلى حد كبير تلك المعتمدة في قياس التنمية.

وأكد أن هذه المؤشرات والمعايير تشير بما لا شك فيه إلى أن اللغة العربية لغة عالمية وأن وضعها وإن حامت حوله الشبهات مكين في عالم اليوم، وطرح الباحث في ورقته مسألة الازدواج اللغوي بوصفها مؤشرا رئيسا في عالمية لغة ما، وهناك موقفان في رؤية هذه المسألة، يقوم الموقف الأول على منطق «مساواتي» يصنف اللغات بحسب مركزيتها إلى أربع مستويات تمثل اللغة الإنجليزية قمتها بوصفها اللغة فائقة المركزية، وفي المستوى الثاني لغات عالية المركزية نجد اللغة العربية إلى جانب لغات الفرنسية والإسبانية والمندران والهندي والأوردو، ويليها مستوى اللغات المركزية الذي يضمن ما بين مائة ومائتي لغة، وأخيرا مستوى اللغات الثانوية.

أما الموقف الثاني فيعتمد مقاربة أنثروبولوجية لاستعمال اللغة في عصر مجتمع المعلومات، ويرى الدكتور بلبول أن اللغة العربية تحرز مكانة جيدة حتى في هذه المقاربة على الرغم من بعض النقائص، إذ تعتمد هذه المقاربة أربع مؤشرات في تحديد الوضع العالمي للغات، وهي: مؤشر الديمغرافيا (عدد المستخدمين)، ومؤشر ذيوع اللغة باعتبارها لغة ثانية، والمؤشر الجيوسياسي، ومؤشر اللغة والمعرفة.

وركز الباحث على مؤشري اللغة الثانية والعامل الجيوسياسي، وفي ما تعلق بالمؤشر الأول، قال الدكتور بلبول: إن جاذبية لغة تقاس بإقبال الناس على تبنيها لغةً ثانية بحكم أهمية الأدوار التي تؤديها، وهنا تبدو اللغة العربية متأخرة، إذ تشير إحصائيات إلى أن عدد المتكلمين باللغة العربية لغة ثانية يبلغ 7 ملايين أي ما نسبته %3.4 من مجموع من يتحدثون لغة ثانية، أما بخصوص المؤشر الجيوسياسي، فإن وضع اللغة العربية جيد إذ تتقدم في الترتيب على اللغة اليابانية التي على الرغم من كونها لسان حضارة عريقة ومجتمع صناعي متطور؛ تظل لغة محلية بامتياز، وتكتسب اللغة العربية مكانتها الجيوسياسية من انتشارها والأدوار التي تؤديها، فعلاوة على أنها لغة رسمية في 22 دولة، فإن لها حضورا في مناطق عديدة من إفريقيا، إذ يستعملها ثلث سكان القارة لغة أولى أو ثانية، إضافة إلى امتدادها جنوب آسيا في كل من إيران وباكستان وأفغانستان وبنجلادش.

وتبدو اللغة العربية في مؤشرات الارتباط بمجتمع الشبكة أو مجتمع المعرفة في وضع غير مريح؛ لأن البيانات العلمية العربية المتاحة على الشبكة قليلة والفجوة الرقمية بين العالم الأول والعالم العربي ما تزال عميقة، وأكد بلبول في هذا المجال ضرورة سن سياسات لغوية لتقديم تعليم بجودة عالية باللغة العربية وبناء ثنائية لغوية متوازنة لا تكتفي بالانفتاح على اللغة الإنجليزية أو الفرنسية لتسريع وتيرة التحديث والاندماج في مجتمع الشبكة، بل تقتحم العالمية عبر تعزيز الإنتاج العلمي والأدبي والفلسفي باللغة العربية.

«الفصحى» صامدة رغم ضعفها
أكد الدكتور ياسر سليمان، رئيس معهد الدوحة للدراسات العليا بالوكالة، والباحث في اللغة واللسانيات، إن للخطاب عن اللغة العربية وجها أيديولوجيا رئيسا، يتمظهر أساسا في طغيان تعابير «الأزمة» و«الخطر» و«التحديات» و«الكفاح» في الكتابات الصحافية المرتبطة باللغة العربية وحتى لدى المؤلفين والباحثين الذين سيطر هذا المعنى على مؤلفاتهم.

وأوضح الباحث أن التعامل مع هذه الهواجس يشمل قسمين اثنين، فهناك خوف مرتبط بالمتن والمحتوى والاستياء من فقدانه، وحله يكمن في تطوير البرامج التعليمية والكتب الدراسية؛ أما القسم الثاني فيتعلق بقلق من ناحية الوظيفة الرمزية للغة، ومصدر القلق هو في الحقيقة قلق على هويتنا العامّة؛ لأن اللغة العربية ترمز إلى هويتنا، وخلص إلى أن معالجة هذا القلق تمر عبر معالجة المشكلة الأكبر المرتبطة بالهوية، أي أن نعمل من أجل أن تصبح الأمة العربية أمة قوية وفاعلة وعندها سينتهي القلق اللغوي.

وفي ورقة تحت عنوان «اللغة العربية والمشهد اللغوي الكوني»، أوضح الدكتور حسين السوداني الخبير اللغوي في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، أن المشهد اللغوي الكوني يشهد تحولا كبيرا، إذ تفيد دراسات أن العالم يفقد واحدة من لغاته الـ5000 كل 14 يوما، وأن هناك نحو 600 لغة قد أخذت طريقها التدريجي نحو الانقراض، ولذلك يبذل جهد دولي تتزعمه الأمم المتحدة من أجل وقف النزيف، وقد أقرت المنظمة في عام 1999 يوم 21 فبراير من كل عام يوما عالميا للغة الأم، حفاظا على عشرات اللغات التي يتخلى عنها الناطقون بها ويستعيضون بلغات أخرى ذات تداول أوسع وصاحبة إنتاج علمي وفكري أكبر.

وفي هذا الوضع، لا تزال اللغة العربية تحظى بمكانة جيدة بعيدًا عن خطر الاندثار، وتشير أغلب التوقعات للمستقبل البعيد المرتبط بانتشار التقنية والترابط الشبكي، وعلى الرغم من ضعف المحتوى العربي لحد الآن، إلى أن اللغة العربية قد تكون واحدة من لغات قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة تحظى بالأهمية والانتشار والاستخدام على نطاق واسع. وقال المتحدث: إن للغة العربية إمكانات استثمار مثالية، فقد أشارت دراسة أميركية أصدرتها رابطةُ اللغات الحديثة في عام 2010 إلى أنّ اللغة العربية تعد من أكثر اللغات الأجنبية تعلما في الولايات المتحدة الأميركية، إذ زاد عدد دارسيها بنسبة %86.

ولكن الباحث يشدد على ضرورة ألّا يترك مستقبل اللغة العربية لتحولات خارجة عن نطاقها أو الاتكال على أن للسان العربي ربّا يحميه، وإنما يجب وضع سياسات لغوية كفيلة بأن تجعل اللغة العربية إحدى أدوات القوة الناعمة للدول العربية.

إشكالية الفصحى والعامية
وشمل برنامج جلسات اليوم الأول من الندوة أوراقا في محاور عدة من بينها مفهوم «اللغة العربية» التي يُتوخى إعمالها انطلاقًا من تدقيق النظر في مفهوم «اللغة المعاصرة» و»اللغة الفصحى» و»العاميات»؛ وكذا مدى تأهيل اللغة العربية لاستعمالها في بناء العلوم والمعارف ونقلها وتداولها.

وتستمر اليوم الأحد ندوة «اللغة العربية في بيئات ومجالات» مختلفة في يومها الثاني في ثلاث جلسات تتناول تحليل أوضاع تعليم اللغة العربية للناطقين بها ولغير الناطقين بها في دولٍ مختلفة، أوروبية وآسيوية وعربية ذات بيئات تربوية وثقافية متنوعة. ويعرض باحثون مشاركون في الندوة نماذج من أعمال حوسبة اللغة العربية وتطوير محتواها في الإنترنت من منظور الاستثمار في اللغة والاقتصاد المؤسس على المعرفة.

يذكر أن الندوة يشارك فيها ثلةٌ من الأساتذة والباحثين والخبراء من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومعجم الدوحة التاريخي للّغة العربية، ومن المنظمة العالمية للنهوض باللغة العربية في قطر، ومعهد الدوحة للدراسات العليا، وجامعة قطر، ومعهد قطر للحوسبة.

جدير بالذكر أن مؤسسة «المعجم التاريخي للّغة العربيّة»، هو مشروع أسسه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وأطلقه رسميا في مايو 2013 بعد قرابة سنتين من التحضيرات، ويتضمن المعجم التاريخي «ذاكرة» كلّ لفظٍ من ألفاظ اللّغة العربيّة، تسجِّلُ تاريخَ ظهوره بدلالته الأولى، وتاريخَ تحوّلاته الصرفية والدّلاليّة، ومستعمليه في تطوّراته، مع توثيق تلك «الذّاكرة» بالنّصوص التي تشهد على صحّة المعلومات الواردة فيها، ومن المتوقع أن يستغرق إعداد المعجم التاريخي المنشود، الذي يؤرخ لألفاظ اللغة العربية على مدى عشرين قرنًا، قرابة 15 سنة، وذلك على مراحل يجري عرض إنجازاتها كل ثلاث سنوات. كما يتضمن المشروع بناء منصة حاسوبية للمعالجة المعجمية تتيح للخبراء اللغويين القيام بعمليات المعالجة المعجمية حاسوبيا.




العربية بين الخمس لغات العالمية
قدّم الدكتور عزالدين البوشيخي المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية نظرة بوجهين عن مستقبل اللغة العربية، فمن جهة هناك خطاب غربي يَنشر على نطاق واسع أهمية الحاجة إلى اللغة العربية، ويبوئها مراكز متقدمة، ويرسم لها مستقبلا زاهرا، في المقابل هناك واقع حال في داخل الدول العربية يحمل الكثير من المؤشرات السلبية.

وأوضح البوشيخي في هذا السياق أن اللغة العربية تحتل في الخطاب الغربي مرتبة متقدمة، فهي من بين الخمس لغات الأولى في العالم من حيث عدد المتكلمين، وهي ضمن اللغات العشر الأكثر استعمالا في العالم، وهي من لغات المستقبل بعد الصينية والإسبانية والإنجليزية، بل تشير التوقعات إلى أنها في مرتبة متقدمة عن اللغات الهندية والفرنسية والألمانية والروسية، وبحسب تقرير المجلس الثقافي البريطاني الصادر سنة 2013، تحتل اللغة العربية المرتبة الثانية، بعد اللغة الإسبانية، ضمن اللغات العشر التي حدد التقرير حاجة المملكة المتحدة البريطانية إليها في العقدين المقبلين، وفق معايير التجارة والاقتصاد والدبلوماسية والأمن والتعليم والثقافة.

ولكن في الجهة المقابلة، يبرز المحاضر عوامل ذات تأثير سلبي في توقع مستقبل اللغة العربية، ومنها ما تؤكده تقارير الخبراء عن تراجعها وانكماشها في مجالات التعليم والإعلام والإدارة والاقتصاد، وعدم الاهتمام الجاد بتمكينها وتطويرها، مقابل اهتمام متزايد بتعلم لغات أجنبية تحتل مواقعها.