

متاحف مشيرب.. حكايات لم تروَ من قطر
«مشيرب» تنثر الغبار عن وثائق نادرة من «الأرشيف الأسود»
كلمة حقوق ليس لها محل من الإعراب في «شهادات الملكية»
لم يكن تاجر الرقيق الشهير المدعو «ابن جلمود» يعلم أن بيته في «مشيرب»، سيتحول إلى متحف يروي تجارة الرق التي ازدهرت في القرن الماضي، وتركت «وصمة لا تمحى» على جبين العدالة..
وقبل الخوض في التفاصيل، دعوني أروي لكم كيف بدأت الحكاية.
في ذلك الحين، أوائل القرن العشرين، كانت قطر بقعة جغرافية قليلة الموارد، باستثناء ما يجود به البحر من اللؤلؤ، والبر من التمور، وكان الطلب العالمي متزايداً على المورد الأول، مما زاد الحاجة إلى قوة بشرية تتولى مهام "الغوص على اللؤلؤ"، حيث تتجاوز قيمة ما ينتجه أهل الخليج -آنذاك- ما يتم إنتاجه في دول العالم.
يوسف بوزية
تصوير: أحمد يسري
كان الرقيق يُجلبون غالباً من قارة أفريقيا وأحياناً من قارة آسيا، يمكثون ردحاً من الزمن -قد يطول أو يقصر- في ساحل عُمان، حيث يتم إعطاؤهم دروساً شفهية في الخطأ والصواب، والثواب والعقاب، مع نبذة إلزامية عن «الواجبات» المفروضة عليهم، أما كلمة حقوق فليس لها أي محل من الإعراب في ملفات الرقيق بما فيها «عقود الملكية»!
فالنظام الاجتماعي السائد كان صارماً في عدم اعترافه بحقوق الرقيق.. فضلاً عن اعترافه بـ «مساواتهم».. لكنه يعترف -الحمد لله- بآدميتهم!
الزبون النهائي
وفي بدايات القرن العشرين، كان معظم الرقيق المسجلين الرسميين في دولة قطر من شرق أفريقيا ومنطقة البحر الأحمر، حيث جرى الاتجار بالآلاف منهم، بعد اختطافهم حرفياً من «العمق الأفريقي»، وشحنهم كالبضائع المعفاة من الرسوم الجمركية، المعدة للتصدير، إلى ساحل زنجبار، ليعرضهم التجار في المزادات كالمتعلقات الشخصية، إلى أن يصل كل منهم إلى «الزبون النهائي» على شواطئ الخليج.
تولى الرقيق المهام الأكثر مشقة في الأعمال المنزلية، بما فيها أعمال البناء، والحراسة، وتكسير الأحجار، ورعي الجمال، وأخيراً جلب المياه الصالحة للشرب من البئر الأوفر في منطقة «مشيرب»، بينما عملت النساء من الإماء في إعداد الطعام ورعاية الأطفال، أو كنّ سراري في بعض البيوت، في حين جعل الفقر والمناخ القاسي الذي يعاني منه الجميع -الأحرار أو الرقيق- يعيشون حياة يومية صعبة.
تفاصيل يومية
تروي الغرف الصغيرة المزودة بالإضاءة الخافتة على جانبي المتحف، فصولاً من «قصة الرق» للأجيال الجديدة من القطريين والأجانب، مسنودة بالوثائق والاعترافات «الحساسة»، من دون رتوش، ومن دون أحقاد أيضاً.
وبينما تعرض إحداها الأماكن والبلدان التي اشتهرت بتصدير «التوابل والرقيق»، تكشف الغرفة المجاورة الأساليب التي كانت مستخدمة في نقل الرقيق وبيعهم بالجملة والمفرد في الأسواق المفتوحة المنتشرة عبر الطرق البرية والبحرية المؤدية إلى «الوجهة النهائية» في قطر.
فسحة من الحرية
تطالعك الأعمال المنزلية التقليدية التي كان الرقيق يقومون بها وحياتهم اليومية.. بما فيها عدة مشاهد تكشف عن الأوضاع الحياتية التي عاشها الرقيق، والذين كانوا يتحررون من قيود الاستعباد اليومي في خلواتهم.. أو فيما يمكن أن نطلق عليه «أوقات فراغهم»، إن كان لديهم أوقات كهذه، عندما ينتظرون انتهاء صلاة العشاء مع سادتهم ونومهم، ليتسللوا خارج البيت للعزف على «الطنبورة»، أو تأدية رقصة الليوه. وحتى عندما بلغت أعداد الرقيق في قطر أعلى مستوياتها، كان لديهم فسحة من «الحرية» لـ «التعبير» عن مشاعرهم، فالرق لم يكن عملية تجارية أو قهرية فقط، يقتاد فيها الضحايا مقرنين في الأصفاد والقيود المعدنية، وإنما كان بمثابة قيود نفسية أيضاً، تجعل العديد من الضحايا يذهبون إلى العبودية بأقدامهم..!
وثائق نادرة
ينثر متحف ابن جلمود الغبار عن وثائق نادرة من الأرشيف الأسود لتجارة الرق، بما فيها «شهادات العتق» التي تم إصدارها في البحرين، وتبين أن عدداً كبيراً من الرقيق، الذين كانوا يبحثون عن الحرية، قد استغرقوا حياتهم في «البحث» دون جدوى.. فهم رقيق بالولادة.
بهذا المعني الملتبس، حيث يلتمس الإنسان حريته دون جدوى، يلتبس الحابل بالنابل.. وتضيع القيم الإنسانية و«يتورط العقل بفوضى عارمة».
فهؤلاء «لا يشملهم» التعميم الوارد في زجرة أمير المؤمنين المدوية:
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! فهم رضعوا حليب الرق من أمهاتهم وأصبحوا رقيقاً بالوراثة.. بحكم «الولادة في الرق».. سواء في قطر أو في أي مكان آخر في منطقة الخليج، كما تبين بعض الوثائق، حيث السادة كانوا يزوجون الإماء البالغات أزواجاً من الرقيق أيضاً، وذلك بما يضمن بقاء سلالة «خالصة» من الرقيق تلبي حاجة «السوق» عند الطلب!
الحجرة الخامسة
يدير هذا الجزء الأخير من المتحف، ظهره للماضي، ليعرض النسخ الحديثة من مظاهر الاسترقاق، بما فيها الاختفاء القسري، والبغاء القسري، والزواج القسري، وكل الممارسات التي تنطوي على عمل «قسري»، مثل الاتجار بالبشر، وتجنيد الأطفال، والخطف، ونزع الأعضاء، والعمل الجبري، وغيرها من مظاهر العبودية المعاصرة. وهكذا، فإنه لم يتم «إلغاء العبودية» في القرن الحادي والعشرين كما يزعم، إلا نظرياً على الورق، أما فعلياً على الأرض، فقد تمت توسعتها لتشمل جميع البلدان والأعراق.. من دون تمييز!
وهو ما يفسر تزايد الأنشطة المناهضة لاستغلال البشر في الرق بجميع أشكاله -أو مسمياته- شرقاً وغرباً، مع تزايد أصوات المنظمات غير الحكومية التي تبذل ما في وسعها لرفع الوعي وتوعية الأجيال، حتى يتم إدراج استئصال العبودية على «جدول» أعمال العالم الحر المزدحم بالأعمال!