

بنجاح ساحق، وعبقرية قطرية عربية أصيلة - بعثتها الدوحة من مرقدها- انطلقت ثم اختتمت فعاليات بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 التي استضافتها دولة قطر الشقيقة على مدى شهر كامل، وفازت بها الأرجنتين بفريق قاده أسطورة اللعبة ليونيل ميسي.
البطولة - بشهادة القاصي والداني- كانت أم البطولات إعداداً وتجهيزاً وإنجازاً، ثم فناً وحضوراً ومتابعة، لأنها - بكل حيادية - تفوقت على سابقاتها تفوقاً هائلاً من حيث روعة الإعداد، وحسن التنظيم، وجمال الملاعب، وتميز البنية التحتية، إضافة إلى المستوى الفني الرفيع الذي أبهر النقاد والمتخصصين وجميع المتابعين.
لقد أشادت الدنيا بأسرها بما حققته قطر، وأكدت مراراً وتكراراً أنه فاق بكثير ما وفرته أوروبا وأمريكا قبلاً، بل وألمحت وسائل إعلام عالمية مرموقة إلى أنه من الصعب أن يكون ما بعدها من بطولات قريباً منها، فضلاً عن ان يضاهيها أو يماثلها أو يتفوق عليها.
النجاح القطري المذهل الذي أدهش العالم، وشغل الناس لم يأتِ من فراغ، ولا كان رمية بغير رام، إنما جاء نتيجة جهد مضن، وعمل كبير، واجتهاد تواصل على مدى اثني عشر عاماً، وبالتحديد منذ أن وقع الاختيار على الدوحة في عام 2010 لتنال شرف تنظيم بطولة 2022 متقدمة على دول كبرى على رأسها وفي قمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
ويكفي للتدليل على قدر ما قامت به قطر، وما بذلته من مجهود أن نذكر بأن الدوحة وقت أن وقع الاختيار عليها لم يكن فيها سوى ملعب دولي واحد، ولم تكن بنيتها التحتية مثل ما هي عليه الآن، ما دفع المغرضين والذين في قلوبهم مرض إلى التشكيك في قدرة الدولة القطرية على تنظيم البطولة، أو على الوفاء بما قطعته على نفسها من وعود والتزامات.
لقد قالوا حينها: أنى لهذه الدولة الصغيرة التي تقبع في شبه جزيرة العرب أن تقوم بما عجزت دول أكبر منها حجماً وأكثر نفرا على القيام به؟ وهل سيسعفها الوقت لبناء وتشيد الملاعب، وتهيئة الفنادق، وإعداد الشوارع، وتوفير المستلزمات التقنية الحديثة؟ فعلوا ذلك حسداً من عند أنفسهم، وتشكيكاً
في قدرة قطر وفي قدرة القطريين على التشييد والبناء، فضلاً عن التنظيم والتجهيز والإعداد.
ولأن القيادة القطرية ممثلة في صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني كانت واثقة بنفسها، مؤمنة بقدراتها، عالمة علم اليقين أن الشعب القطري كله يقف وراءها ردءاً وسنداً، فقد قبلت التحدي، وألقت خلفها ترهات المشككين، بل واتخذتها دافعاً إضافياً نحو العمل، راحت تواصل الإنجاز ليلاً ونهاراً غير
عائبة بما يثار حولها من غبار، وما يوضع أمامها من عقبات وعراقيل، حتى حققت المطلوب وأكثر من المطلوب في أقل من المدة المقررة والزمن المرصود.
وليس من شك في أن هذا كله تحقق بالعرق والعمل، وبالعزم والأمل، وبالعقول الذكية، والسواعد القوية، والقلوب السليمة التي تؤمن بأن الأماني وحدها لا تبني المستقبل ولا تضع النجاح، وأنه لابد من الجد والاجتهاد للوصول إلى الهدف ونيل المراد.
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا، لقد أثبتت قطر بنجاحها الرائع، وبأسها الشديد، وحكمتها البالغة أن أمة العرب تمرض ولا تموت، وأن الإنسان العربي ليس كما تصوره بعض آلات الإعلام المريبة، يحيا يائساً ويموت بائساً، قبل أن يمضي حياته همجي التصرفات، وحشي السلوك معدوم الكفاءة والقدرات، بل إنه إنسان متحضر يألف ويؤلف، ويقبل الآخر، ويعطي الجميع حقه من الاحترام والتقدير والإجلال، ومن دون أن يفرط قيد أنملة في أصوله وثوابته ومعتقداته التي يؤمن بها، ويحرص عليها، كما يحرص ويؤمن بأن للآخرين كرامات يجب أن تحفظ، وحقوقاً لابد أن تصان.
ولكي لا يكون الكلام على عواهنه، وحتى نثبت أن الواقع يطابق تماماً ما نقول ونكتب عن التحضر القطري، والأصالة القطرية، والنبل القطري، التي هي بالقطع تحضر وأصالة ونبل عربي في الأساس نعلنها بملء الفم أن قطر الشقيقة كانت خلال الفترة الماضية بؤرة اهتمام العالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله
إلى جنوبه، وكانت كل العدسات متجهة إليها، تصور من أرضها أدق الدقائق وأكبر وأصغر التفاصيل، وتنقل ما تسجله وترصده إلى بقاع الدنيا، ومع ذلك لم تسجل إلا ما يرفع الرأس ويعلي القدر ويزيد القيمة، فليست هناك هفوة أو سقطة، أو تجاوز في حق زائر واحد، مع أن الزائرين كانوا بمئات الألوف، ومن سائر البلدان والأقطار، والأجناس والمعتقدات، وهذا ما أظهر للعالم كله أن العرب وفي مقدمتهم القطريون أمة متحضرة تقودها وترسم خطاها القيم الإنسانية وتتحكم في سلوكها وممارستها قوانين الأرض من بعد توجيهات السماء.
وعندي وعند كلّ المنصفين وهم كثر أنه إذا كانت الأرجنتين قد فازت بالكأس الذهبية الغالية، فإن قطر نالت أوسمة الإعجاب والمديح والثناء من قبل كلّ المشاركين والمتابعين والزائرين الذين لقوا من قادتها ومن شعبها ما لم يخيّل إليهم يوما أن يجدوه في المنطقة العربية من كرم الضيافة وحسن الوفادة، وروعة الاستقبال، ودقة العمل، وحرارة اللقاء.
إذن فالفائز هو قطر، والغالب قطر، وشعبها هو المنتصر الموفَّق المشكور. ولأنّ مياه النهر لا تصفو من الكدر، ولأن كلَّ ذي نعمة محسود، فقد حاول أعداء النجاح الذين ساءهم التفوق القطري وأوجعهم الإعجاز القطري حاولوا أن يحدثوا ثقباً أو يصنعوا خرقاً في ثوبها الأبيض النظيف الذي يفوح عطراً، ويتيه ألقاً، فراحوا يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويحولون الصورة الجميلة المعبّرة إلى الضد والنقيض منساقين وراء نفوسهم المغرضة، وقلوبهم المريضة التي تمكن منها الداء.
ففي حفل الافتتاح ساءهم استهلال البطولة بآيات من الذكر الحكيم، بدعوى أن في ذلك ما فيه من الإشارات الدينية التي يجب ألا يكون لها متسع أو مجال، غافلين وناسين أو متناسين أن هذا الاستهلال يجلِّي بوضوح استعانة البشر برب البشر في القضايا الكبرى وفي المسؤوليات الجسام، وهو أمر معروف
ومألوف في كل معتقد وفي كل دين. ولما تفضل سمو أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله ورعاه بإلباس قائد منتخب الأرجنتين ليونيل ميسي «البشت العربي » تكريما له
وتقديراً لفريقه راح المرجفون في المدينة يحرفون معاني تلك اللفتة الأميرية الصادقة المعبّرة، ويخرجونها عن مضمونها السامي بقولهم إن هذا اللباس لا يعرفه غير العرب، ولا يمثل إلا المجتمع العربي، وليس الهدف من إبرازه سوى أن تظل صورته محفورة في الأذهان إلى أبد الأبدين «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا»، لقد كان سمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني كريما كما هي عادة سموه دائما - وهو يهدي إلى أسطورة الكرة «بشت العرب » وكأنه يقول لميسي ورفاقه: إنّ لكم عندنا قدراً ومكانة، ولكم في نفوسنا معزّة ومنزلة، وهذا رمزنا نهديه إليكم، حريا على عادة العرب أهل السخاء والوفاء والكرم والعطاء والنبل والشهامة والحبِّ المميز.
خلاصة القول: إن قطر حازت الفوز والظفر، فكانت قبل المونديال وخلاله، وستظل بعده إن شاء الله الأكثر بروزا، والأعلى كعباً والأصدق وعوداً وعهوداً، كما ستظل قبلة الباحثين عن النجاح، التواقين إلى التميز وإلى الخلق، وإلى الإبداع والابتكار.
أما على المستوى العربي فيكفي أن دوحة الخير أعادت اللحمة والوحدة إلى أمتها التي توافد عليها أبناؤها من كلّ الأقطار يشجعون قطر ويهتفون للسعودية، ويشدون من أزر تونس ويفخرون بانتصارات المغرب في مشهد كاد أن يختفي أو كاد أن يغيب، وبالتالي عادت من جديد الروح العربية الوثابة الساطعة.
تحية إلى سمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتحية إلى الحكومة القطرية الرشيدة، وتحية إلى الشعب القطري الذكي الواعي، وإلى كلّ أهلنا في قطر.
نقول: وعدتم فأوفيتم، وأنجزتم فأعجزتم، وصنعتم البهجة ونشرتم الحبَّ في مختلف دول العالم. كفيتم وأوفيتم فشكراً لكم.