الناقد الفني د. نزار شقرون في حوار لـ «العرب»: «فريج الفنّ والتصميم» يدفع الحركة التشكيليّة القطريّة إلى الأمام

alarab
المزيد 18 نوفمبر 2025 , 01:24ص
محمد عابد

«القرية الرقمية» تهدد الخصوصيات الثقافية

الندية الحضارية غائبة عن حوارنا مع العالم

«الفنان القطري صنع جماله من بيئته»

النقد الجمالي غائب.. والكتابة الانطباعية تُضعف الحركة التشكيلية العربية

«قضايا الهوية» خيط ناظم بين تجارب الملا والمالك وسلطان وعبدالله وأحمد

 

في كتابه «قضايا الهوية في تجارب تشكيلية قطرية»، يفتح الناقد الفني الدكتور نزار شقرون، المستشار الثقافي بوزارة الثقافة، حواراً نقدياً معمّقاً مع التجربة التشكيلية في قطر، بوصفها مرآةً لتحولات الهوية المحلية في زمن العولمة الرقمية. من خلال مقاربة فكرية وفنية رصينة.
وعلى هامش مهرجان فريج الفن والتصميم  في نسخته الثانية، والذي اختتم مؤخراً بدرب الساعي، التقت «العرب» الناقد نزار شقرون للحديث عن هذا الكتاب والمشهد الفني في قطر والعالم العربي، حيث تناول في كتابه أعمال خمسة من رواد الفن القطري، محللاً كيف نجحوا في صياغة هوية بصرية خاصة توازن بين الانتماء الوطني والانفتاح على العالم. 
وأكد في حديثه أن الرهان اليوم لم يعد على “حماية الهوية” فحسب، بل على بناء وعي نقدي قادر على جعلها طاقة خلاقة في عالم سريع التحول وإلى تفاصيل الحوار: 
◆ ما الدافع الأساس وراء تأليف هذا الكتاب، وما الرسالة التي يحملها للقارئ العربي من خلال هذا العمل؟
¶ خامرتني منذ سنوات فكرة الكتابة النقديّة حول التجربة التشكيليّة القطريّة، بمقاربة مختلفة عمّا كتب في السابق، وبأدوات نقديّة لا تنتصر للمحاباة أو التوصيف الدّعائي، ذلك أنّ المحترف التشكيلي القطري زاخر بألوان التجريب في الفنّ، ولهذا المحترف تجربته المخصوصة في المشهد التشكيلي العربي وإن كانت بداياته متأخّرة قياسا ببدايات اللوحة المسنديّة في بلدان عربيّة أخرى، ولكنّني انتبهتُ إلى أنّ ظاهرة تبنّي اللوحة منذ خمسين عاما فحسب، أنقذ التشكيل القطري من الأثر الكولونيالي والاستشراقي الذي تخبّطت فيه اللّوحة سواء في المغرب العربي أو في مصر مثلاً، فلم يدخل الفنان التشكيلي القطري المحترف الفن العربي إلاّ في أواخر الستينيات، وقد استفاد من التجارب العربيّة التي تخلّصت بعناء من إرث الاستعمار والذائقة الاستشراقيّة.

 الفن والهوية 
◆ من وجهة نظرك دكتور إلى أي مدى يسهم الفنّ التشكيلي في تشكيل الوعي بالهوية الوطنية ؟
¶ لو عدنا إلى استقراء تاريخ الإنسانيّة فسنقف على الميزة الرّئيسيّة للفنّ، في ارتباطها بتشكيل هويّة الإنسان، منذ فنون الكهوف والفنون الصّخريّة لعبَ الفنّ دورَ بناء شخصيّة الإنسان، سواء في مجال التفكير أو التّخييل، ولذلك كان الفنّ سبّاقا لإحداث المتغيرات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة في عصر النهضة الأوربية مثلاً، حيثُ لا يقرأ ذلك العصر باستبعاد دور ليوناردو دافنشي وجيوتّو وميكيل أنجلو ورافائيل وغيرهم، فلم يكن بالإمكان فهم هويّة إنسان النهضة دون فنونهم، فالنزعة الإنسانيّة وهيَ خصيصة ذلك الفنّ تجسّدت في هويّة أهل ذلك العصر. ولهذا فالفنّ يشكّل الوعي بالهويّة متى كانَ ابنا لحركة التاريخ، وفي كلّ بلدٍ يلعبُ الفنّ هذا الدّور حتّى وإن بدا خافتا بسبب قصور الوعي بالثقافة البصريّة. 
◆  في زمن “القرية الرقمية”.. كيف ترى العلاقة بين الانفتاح على العالم والحفاظ على الخصوصية الثقافية؟
¶ في كلّ حقبة تاريخيّة ثمّة ثقافات تهيمن وتدّعي أنّها تمتلك الحقيقة، وتلك معضلة تحوّل هذه النزعة إلى تسلّط فكري وسياسي واقتصادي، وفي غضون تلك الحقب تظهر أصوات تنادي بالخصوصيّة الثقافيّة وبحقّ الثقافات بأن تتنفّس الهواء الذي تراهُ مناسبا لأهلها. ونحن اليوم نعيشُ هذه المعضلة طبعاً، ولكن بوطأة أشدّ، فحضاريّا لسنا في مكانةٍ تسنح لنا بإدارة النديّة، ولذلك سيكون وضعنا مثل وضع أمم أخرى في المطالبة باحترام خصوصياتنا الثقافيّة.

◆ وهل يمكن للفنان المعاصر أن يكون عالميًا دون أن يفقد هويته؟
¶  طبعا، ليس هناك أيّ تعارض بين العالميّة والهويّة، بل إنّ مفتاح العالميّة من معدن المحلية، وأغلب التجارب الفنية التشكيليّة في العالم كانت مغمّسة في ما هو محلّي، بل هناك تجارب لجأت إلى «هويات» وخصائص محلية لشعوب أخرى كيْ تطوّر من رؤيتها التقنية والفكريّة في بناء عالمها الفني، نذكر ما قام به بيكاسو في عودته إلى الأقنعة الإفريقيّة، فأسّس الفنّ التكعيبي، وعاد ماتيس إلى الفنّ الإفريقي أيضا فاستلهم منه أبعاده اللونيّة وأسلوب تبسيط الأشكال، وبول كلي نفسه الذي زار تونس فتأثّر بالرّموز الإفريقيّة والعربيّة القديمة. ذلك يعني أنّ الاتّجاه نحو الخصوصيات المحلية يثري البعد الفني المعاصر، ولذلك فإنّ تأصيل العمل الفني ينهض أساسا على عناصر الهويّة. وقد خاض الفنانون العرب تجارب مخصوصة في هذا الاتجاه ومنها جماعة البعد الواحد، والاتجاه الحروفي، ونعثر على تجارب فرديّة متّصلة بالبيئة المحلية، وقد انخرط الفنانون القطريّون في هذا الاتّجاه بشكل واضح، عند استثمارهم لكلّ عناصر بيئتهم وتاريخهم. 

◆ من وجهة نظرك ما الذي يميز التجربة القطرية عن غيرها من التجارب الخليجية والعربية؟
¶  ثمّة خصوصيّات أساسيّة في التجربة التشكيليّة القطريّة، دون أن نغفل مشتركاتها مع التجارب الخليجيّة التي تتقاسم معها بتفاوت زمنيّة تبنّي اللوحة المسنديّة والخلفية الثقافيّة المتقاربة، بحكم تواشج التقاليد والعادات في المطلق، وهنا أريد أن أشير إلى أنّني كثيرا ما أستخدم مصطلح «فويرقات» أكثر من الفوارق، حيثُ يكون الاختلافُ فيما هو جزئي داخل الكلّي، ويمكن قياس ذلك حتّى في التقاليد وأنماط الأكل واللباس، فالظاهر هو «المشترك» ولكن بالتدقيق سنجد أنّ لكلّ قطري خليجي فويرقاته، ومحليته. وقد تفطّن الفنان التشكيلي القطري إلى تلك المحلية، حتّى أنّ أغلب التجارب بدأت في قلب حيّ الجسرة في الدوحة، مع الروّاد، واستخدمت وسائل بسيطة، ولم يكن أمامها غير البيئة تستلهم منها رؤاها وصورها، قبل أن تنفتح على المحترفات العربيّة والعالميّة. وكانت قضايا الهويّة أهمّ سمة اخترقت تجارب الرواد واستمرّت مع تعاقب الأجيال، كلّ هذه الدوافع جعلت من اللوحة أو العمل الفني البصري بشكل عام لدى الفنانين القطريين، معنيّا بأسئلة الهويّة والخصوصيّة.
 ولعلّ حراك «مهرجان فريج الفنّ» سيعطي دفعا جديدا للحركة التشكيليّة القطريّة، وهو حراك واعد في زمن ثقافي عربي شحّت فيه المهرجانات القيّمة وذات البعد الطّلائعي.

◆ في إحدى النّدوات أشرت إلى أنّ الفنان القطري واجه تحدّيًا مزدوجًا بين أدوات الفن الوافد والسعي لترسيخ هويّة محلّية.. كيف نجح –برأيك– في تحقيق هذا التّوازن؟ وهل يمكن القول إنّ الهويّة البصرية القطرية قد تبلورت اليوم بملامح واضحة؟
¶  ما واجهه الفنان القطري هو تحدّ مشترك مع سائر الفنانين العرب الذين طرحوا مشكلة استخدام أدوات فنيّة غربيّة للتعبير عن «الرّوح الثقافيّة العربيّة»، ولذلك طُرح مشكل «تبيئة» المفهوم، حيثُ عاشَ المحترف العربي على مدى عقود أسير هذا المشكل، لأنّ الأدوات التي تُستخدم في الممارسة الفنية ونعني بذلك الأصباغ، القماشة، وغيرهما، هي بدورها تحملُ مفهوما غربيّا، فانتقال الغرب من الحامل الخشبي في رسم الأيقونات إلى الحامل القماشي ليسَ مجرّد نقلة «تقنيّة» تعبّر عن تغيّر الخامة. لهذا عمل الفنان القطري بهذا الوعي المُشكلي، وبحث مثل غيره من الفنانين العرب عن إظهار تغلّب المنزع المحلي على الأدوات نفسها، قد نجد هذا المسار بجلاء في تجربة الفنان يوسف أحمد حين لجأ إلى النّخل لصناعة حاملٍ عضوي يحملُ ملمس البيئة القطريّة، وأتاح له هذا الأسلوب ملمسا خشنا وغنيا يتناغم مع التعبيرات الحروفيّة التي يستخدمها، مبتعدا بذلك عن السطح الجاهز، وهذا موقف جمالي وفكري. وسارَ فنانون آخرون في اتّجاه الموضوعات التراثيّة للاستفادة من الخطّ العربي والزخارف والعمارة التقليديّة والأزياء القطريّة والحكايات الشّعبيّة، وانعكست هذه الموضوعات على الأساليب الفنية بين التجريدي والرمزي والتعبيري، وحتّى في المقاربات الأسلوبيّة الواقعيّة ظلّ «اتّجاه الهويّة» مهيمنا. 

 الكتاب جزء من مشروع موسوعي لكافة الرواد القطريين 
◆ اخترت خمسة من رواد الفن التشكيلي في قطر (حسن الملا، سلمان المالك، وفيقة سلطان، محمد علي عبدالله، يوسف أحمد).. ما المعايير التي بنيت عليها هذا الاختيار؟ وكيف يعبّر كلٌّ منهم، في رأيك، عن الهوية القطرية بطريقته الخاصة وهل هناك قواسم بين تجاربهم؟
¶  ثمّة قواسم مشتركة بين الفنانين الخمسة، من أهمها ريادتهم للتجربة التشكيليّة القطريّة، طبعا هناك روّاد آخرون فضّلتُ مقاربة أعمالهم في كتابات لاحقة، إذ يمثّل هذا الكتاب جزءا من عمل أكبر وأوسع سيشمل وجوها أخرى من وجوه أسئلة الفن التشكيلي القطري. وقد وجدت أنّ روابط عديدة تجمع بين هؤلاء الفنانين، الذين تأثّروا بما عرفته حقبة بداياتهم من أنواء فكريّة وتلوّنات أيديولوجيّة في المشهد الفكري العربي. ورغم اشتراكهم في التوجّه نحو قضايا الهويّة فإنّ خياراتهم الجماليّة كانت مختلفة، وهذا مفيد جدا لديناميّة التجربة التشكيليّة القطريّة. 

◆ كيف تقيّم حضور النقد التشكيلي في قطر والعالم العربي وكيف نعزز الوعي الفني في المجتمعات العربية ؟
¶  ما زلنا في حاجة إلى النقد الفني، مثل حاجتنا إلى الرافعة النقديّة في آدابنا وفنوننا العربيّة بشكل عامّ، ورغم وجود بعض المهرجانات الفنية العربيّة، وتنامي عدد الفنانين في البلاد العربيّة، فإنّ النقد ضئيل، قياسا بهيمنة الكتابة الانطباعيّة، وهذا يُضعف من أثر الحركة التشكيليّة، ويتسبّب في عدم تطوّر الذّائقة الجمالية لدى الإنسان العربي، وأغربُ مفارقة نعيشها اليوم أنّنا في عصر الصّورة ولكنّ شعوبا بأسرها لا تمتلك لغة الصّورة، حتّى وإن كانت تتواصل معها يوميّا.