

حين وُلد الصوت في العالم.. وُجِدتُ أنا بلا صوت
كنت أعيش في عالم صامت لا تصلني فيه الكلمات… فقط نظرات وملامح!
من يظن أن الصمت ضعف لم يعرف كوثر بعد
مطلوب توفير فرص التعليم الجامعي المهني والأكاديمي لطلبة الصمّ
تركت المدرسة لأن المجتمع لم يكن مستعداً لسماع لغتي
لم يكن الصمت نقطة ضعف، بل كان طريقاً معبداً بالصبر ومضيئًا بأنوار العزيمة، مزروعًا بخطى من تحدّوا الواقع وكسروا قيوده، كانت طفلة صغيرة لا تسمع، لا تنطق، لكنها كانت تستشعر الحياة بقلب لا يهدأ، وتنطق الأمل بإشارات لا يخطئها النبض. هذا الحوار هو ملخص مشوار امرأة من أصحاب الهمم، قررت أن يكون الصمت باباً إلى النور.. لا سجناً لروحها. كوثر.. اسم علم بسيط، لكنه حمل في طيّاته صبراً، وصمتاً، وأملاً، ورسالة. وُلدت في عالمٍ يفيض بالأصوات، لكن أذنيها لم تسمعها. وهذه قصتها ستعرفها من إجاباتها على أسئلة «العرب»:
◆ متى داهمك الشعور بأنك مختلفة؟
¶ لم أكن أعرف أنني مختلفة، كنت فقط أعيش، أراقب، أبتسم، وأشعر. لم أكن أسمع صوت أبي، وأمي.. ولا إخوتي. كنت أعيش في عالم صامت، لا تصلني فيه الكلمات.. فقط نظرات وملامح.
دخلت المدرسة كباقي الأطفال. كنت أحمل حقيبتي الصغيرة وأحلاماً.. أكبر منها. ولكنني لم أفهم كلمات المعلمة، لم أشاركهم الضحك، الشرح، والأسئلة. قالوا لوالدي: «ابنتك لا تسمع».
◆ كيف غيّرت هذه العبارة – المؤلمة – مجرى حياتك؟
¶ لم تكن تلك العبارة مؤلمة فقط، بل كانت مفصلًا غيّر مجرى حياتي بالفعل. خرجتُ من المدرسة، لا لأنني لا أستحق التعليم، ولكن لأن المجتمع لم يكن مستعدًا لسماع لغتي، لكن الله كان معي، جعل في قلبي نورًا، وفي روحي صوتًا، وفي نظراتي رسالة. عدتُ إلى الحياة من أبواب جديدة.
وقبل أن أتمكن حتى من البوح بحلمي أخذني والدي إلى معاهد التربية الخاصة في دولة الكويت، حيث تعرّفت على لغة جديدة، لغة الإشارة. أحببتها كثيراً، شعرت بأنها تنتمي إليّ، وأني أستطيع بها أن أقول ما في قلبي، لكن بعد عودتي من الكويت، رأى والدي أنني أتحدث بالإشارة، لم يتقبّل الأمر، كان يريدني أن أتكلم « بالصوت» لا باليدين، فأخرجني من المدرسة مرة أخرى، ثم نصح أحد أصدقاء والدي أن يأخذني إلى لندن للعلاج، وهناك، قال الطبيب لأبي كلامًا لن أنساه: أنت أخطأت بإرسالها إلى معاهد الكويت… ابنتك لا تحتاج إلا إلى سماعات.. وسينطلق لسانها. وأضاف الطبيب: ”يمكننا إجراء عملية جراحية لأذنيها“، لكن أمي خافت، ورفضت العملية. اكتفت بالسماعات، واحتضنتني بخوفها وحبها معاً.
ريادية رقمية من المنزل
◆ كيف تصفين نفسك؟
¶ أول معلمة رياضيات قطرية من الصم، مبتكرة تربوية ومستشارة تغذية علاجية، وريادية رقمية من المنزل. أهدف إلى تمكين الطالبات من فهم الرياضيات واللغة المكتوبة عبر أدوات بصرية وإشارية. رحلتي في تعليم الصم لم تكن مجرد وظيفة، بل كانت رسالة حملتها بكل إيمان، وواجهت بها تحديات كثيرة، وحققت فيها نجاحات لا تُنسى.
آمنت منذ البداية أن تعليم الطالبات الصم لا يكتمل دون تمكينهن من اللغة المكتوبة، فهي بوابة الجامعة، والعمل، والاستقلال.
◆ متى سمعتِ صوتاً لأول مرة؟
¶ في إحدى المرات، كنت في الطابق الثاني في منزلنا، وقد علّمني الطبيب كيف أرتدي السماعة فارتديتها، وفجأة، سمعت صوتًا لأول مرة في حياتي، كان صوت أبي، وأمي، وأختي يتناهى إلي من الطابق الأول. تجمّدتُ لحظة من الدهشة، ثم ركضتُ نحو أبي وأنا أصرخ بفرح: «أبي! أنا أسمعك»!
فرح والدي، وبدأ يصرخ بحماس: «كوثر، كوثر!». لكنني تألمت من نبرة صوته العالية، فقلت له ببراءة: «اخفض صوتك يا أبي، صوتك عالٍ جداً“ فازداد فرحه، لأن انزعاجي دليل على سمعي.
◆ أصبحتِ أول معلمة قطرية تُدرّس الصم، لم يكن الطريق سهلاً، أليس كذلك؟
¶ في مسيرة التعليم. لم يكن الطريق سهلًا، نعم، فقد واجهت تحديات كثيرة؛ بدءاً من نقص الوسائل التعليمية، وقلة الوعي في مجال الإعاقة السمعية، إلى صعوبة الدمج الفعلي داخل المجتمع المدرسي.
كنت أؤمن أن النجاح لا يولد من الراحة، بل من الإيمان بالرسالة، فبدأت بتطوير أساليب التعليم، وإعداد أوراق عمل بلغة الإشارة، وتبسيط المناهج بما يتناسب مع قدرات الطالبات الصم، دون أن يُنتقص من محتواها العلمي. كنتُ أرى في كل طالبة صماء مشروع نجاح، لا حالة عجز.
لذلك سعيت لأكون صوتًا لهنّ، ونافذة أمل تُثبت أن التعلم حقّ للجميع بلا استثناء. ومع مرور السنوات، توسعت التجربة، وأصبحت نموذجًا يُحتذى في تمكين كثير من الطالبات اللواتي واصلن دراستهن حتى المرحلة الجامعية، وبعضهن أصبحن معلمات ومترجمات للغة الإشارة، يحملن الشعلة التي أوقدتها داخل بيئة التعليم.
الصبر يصنع الفرق
◆ رحلة مليئة بالتحديات، ولكن أيضاً بالعطاءات والإنجازات.. ماذا تعلمت خلالها؟
¶ تعلمت خلالها أن الصبر يصنع الفرق، وأن التعليم ليس مهنة، بل رسالة إنسانية مقدسة. تعلمت وآمنت أن الإعاقة لا تكمن في الأذن، بل في غياب الفرصة.
◆ بماذا تلخصين الخبرة التي اكتسبتيها في سنيّ عمرك؟
¶ اليوم، وأنا أستعيد تلك المسيرة، بكل ما فيها من محطات، أقول بثقة ورضا أن القوة فينا جميعاً، وأن كل صوت، مهما كان خافتًا، يمكن أن يغيّر العالم، إذا وجد من يصغي إليه. لقد كانت رحلتي مع الصم رحلة حياة.
◆ لماذا اخترت دراسة الرياضيات؟
¶ اخترتُ دراسة الرياضيات، رغم أنني لا أسمع الأستاذ، لكنني كنت أرى وأفهم ما يُكتَب على السبورة كانت لغتي، لغة أفهمها جيداً، حتى لو لم أسمع صوتًا، وحين كنت أواجه مسألة لا أعرف حلها، كنت أخجل أن أرفع يدي أو أسأل، فأذهب بهدوء إلى مكتبة الجامعة، أبحث، وأقرأ حتى أجد الجواب في أحد الفصول. كنت أعود إلى المكتبة مراراً وتكراراً لأفهم أكثر، كنت أبحث عن الحل ثم أفهمه، وأحتفظ به في قلبي وعقلي.
لم تكن الرياضيات وحدها هي عالم، بل وجدتُ متعة أخرى في القراءة والكتابة. كنت أذهب كثيرًا إلى مكتبة الجامعة، أتجوّل بين الرفوف، أتنقّل بين الكتب العلمية، وكأنني أسافر بعينيَّ في عوالم جديدة، وفي زوايا الجامعة كوَّنت صداقات جميلة، أخوات في الله، كنا نذهب معًا إلى مصلى الجامعة، نذكر الله، نقرأ القرآن، ونتعاون على الطاعة، نحب بعضنا في الله دون مصلحة. ثم جاء اليوم المنتظر.. تخرجتُ من الجامعة وأصبحتُ أحمل شهادتي بيدٍ، وحلمي بيدي الأخرى.
◆ هل واجهت صعوبة في «البحث عن وظيفة»؟
¶ كنت أقرأ الإعلانات في الصحف، وذات يوم: رأيت إعلان وظيفة محاضرة بلغة الإشارة في الهلال الأحمر وشعرت بشيء يهتف بداخلي: «هذه لغتي!».. ذهبت فوراً إلى مقر الهلال الأحمر، جلستُ في القاعة وتابعت المحاضرة بكل تركيز، كانت المحاضِرة تتحدث بلغة الإشارة، تحكي عن “شخصية رائعة” و»إنسانة مجاهدة» سافرت إلى الكويت، تحب الخير للناس، صبورة، ومثابرة. كنتُ أستمع وكل كلمة كانت تشبهني، وتساءلت مع نفسي: هل هذه الشخصية هي أنا؟ مستحيل!
بعد انتهاء المحاضرة، توجّهنا جميعًا إلى قاعة الطعام … وفجأة، رأتني المحاضِرة فنادت بصوت عال مفعم بالدهشة: يا سبحان الله! كنت أتكلم عنك ولم أكن أعلم أنكِ هنا!.. اقتربت منّي وضمّتني بقوة كما لو كنا نعرف بعضنا منذ زمن. ابتسمتُ بامتنان، وقلت لها إنني تخرجت حديثاً وأبحث عن وظيفة، فدعتني للانضمام معهم في المدرسة، وكانت تلك اللحظة بداية فصل جديد في حياتي.
◆ ما الإنجازات التي تفتخرين بها في مسيرتك؟
¶ هناك العديد من الإنجازات التي أستطيع أن أفتخر بها بما فيها دمج طالبات الصم مع الطالبات الناطقات في الصفوف الدراسية، دعم وتشجيع طالبات الصم للالتحاق بجامعة قطر، وقد تم قبول أول دفعة بالفعل، تطوير أساليب التعليم المخصصة للإعاقة السمعية، المساهمة في تأسيس برامج مهنية تربوية تخدم هذه الفئة في قطر، نلتُ شرف عضوية مجلس أمناء المدرسة المختصة بهذه الفئة كتقدير لمسيرتي في هذا المجال.
كما شاركت في مشاريع تعليمية لتعليم الصم وتمكينهم، لنشر الوعي وإحداث التغيير في المجتمع، وأصبحت لدي القدرة على تقديم الدروس وورش العمل، ومساعدة الآخرين على اكتشاف قدراتهم، مثلما اكتشفت قدراتي أنا.
أسست مواد تعليمية وأوراق عمل للصم، لتسهيل رحلة التعلم لهم بشكل مبتكر وعملي.
شاركت في مبادرات توعوية عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل، لأثبت أن الأصم قادر على الإبداع والمشاركة الفاعلة في المجتمع.
وكل إنجاز حققته كان خطوة لإظهار أن الصمت ليس ضعفًا، بل قوة كامنة تنتظر الفرصة.
نجاحي لم يكن من أجلي فقط، بل من أجل كل أصم يسعى لأن يُسمع صوته ويترك أثره.اليوم، أفتخر بكل خطوة، وأعلم أن رحلتي مستمرة… وأن كل نجاح صغير يمكن أن يكون مصدر إلهام للآخرين.